تحمل «مؤسسة هاينريش بُل» اسم الكاتب الألماني الذي توفي عام 1985 عن عمر ناهز 67 عاماً. بُل الذي اشتُهِر بكتاباته المناهضة للحروب والنازية، كان ميدانه الحقل الثقافي عبر الروايات التي أشبعها بالأفكار الليبرالية، ضمن الحرب الثقافية التي شنّتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية ضد شعوب المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي. وكما ورد في الحلقة السابقة من ملف «مقاتلو الحرب الناعمة» حول مؤسسة «فورد»، أسّست الـ CIA عام 1950 ما يُسمّى «مجلس الحرية الثقافية» (CCF) الذي اتّخذ من باريس مقرّاً له. لم يقتصر تأسيس المجلات والصروح الثقافية، للتأثير الناعم المناهض للشيوعية، على شعوب «العالم الثالث» كما في المنطقة العربية مع توفيق الصايغ وحسب، بل شمل النشاط بلداناً أوروبية أيضاً، كانت مدنها لعقود مسرح المواجهة بين الرأسمالية الليبرالية والماركسية الشيوعيّة.في حزيران عام 1950، أسّس CCF في الشطر الغربي من برلين ما سُمي بـ «مؤتمر الحرية الثقافية». وانبثقت عن «المؤتمر» مجلة سُمّيَت Der Monat، تلقّت تمويلاً سخيّاً من وكالة المخابرات المركزية، وتعاون معها صحافيون بارزون وممثّلون رئيسيّون لدور النشر في ألمانيا الغربية. إضافة إلى برلين، افتتح «المؤتمر» فروعاً له في كلٍّ من ميونيخ وفرانكفورت وكولونيا، حيث طوّر علاقات مميزة مع هيئات تحرير الصحافة المكتوبة والمتلفزة. وكان هاينريش بُل، الذي حاز على جائزة نوبل للآداب لاحقاً عام 1972، من الذين تم الاتصال بهم ليعمل لأكثر من عشر سنوات لصالح «مؤتمر الحرية الثقافية» ومنظّماته المختلفة.


عام 2006، بثّت قناة ARTE الفرنسية - الألمانية فيلماً وثائقياً للمخرج الألماني هانز روديجر مينو، حمل عنوان «عندما اخترقت وكالة المخابرات المركزية الثقافة»، مثّل خلاصة 3 سنوات من البحث الاستقصائي، وكشف، بالوثائق والأسماء، عن شبكة الـ CIA في الميدان الثقافي الأوروبي خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، وبقي الفيلم وما ورد فيه حديث الصحافة في برلين وباريس لأشهر. يؤكّد مينو أنّ هاينريش بُل «كان الماسة ضمن مجموعة وكالة المخابرات المركزية»، وقد دفعت وكالة التجسّس الأميركية نفقات سفره، ودعمت ظهوره مع العديد من الكتّاب الآخرين في المشهد الثقافي الدولي. كان تجنيد هاينريش بُل يهدف لخدمة إجراءات وكالة المخابرات المركزية في جميع أنحاء أوروبا. وتماماً كما في كلّ المناطق الجغرافية التي عملت فيها CIA عبر «مؤتمر الحرية الثقافية» (CCF)، لم يكن الكثير من العاملين في المنصّات الثقافية التابعة للمؤتمر يعرفون أكثر من أنّ «مؤسسة فورد» الأميركية كانت تؤمّن لهم التمويل. وبحسب ما كشفه غونتر غراس، زميل هاينريش بُل، لمعدّي الوثائقي، أنّه من غير المحتمَل أن يكون بُل قد تورّط في البداية عن علم في نشاط وكالة المخابرات المركزية، لكنّ الوثائق التي عرضها الفيلم تُثبت أنّ وكالة التجسّس الأميركية قدّمت الكثير من الامتيازات للكاتب الألماني.
دُعِمَ نشاط هاينريش بُل بمبالغ كبيرة على مستوى أوروبا عبر «اتحاد الصناعات الألمانية» (BDI)، المنظَّمة «الواجهة» لوكالة المخابرات المركزية. كانت مهمّة المنظمة تزويد مثقّفي أوروبا الشرقية بالمطبوعات المفتوحة والمهرَّبة وكسبهم كمعارضين. وإضافة إلى بُل، شملت عضوية الألمان في محطة وكالة المخابرات المركزية الناشرَين كلاوس بايبر وجوزيف ويتش اللذين هرّبا المنشورات المصنّعة باستخدام الطباعة الرقيقة إلى ألمانيا الشرقية أو بولندا، وقدّما فنّانين من أوروبا الشرقية إلى محطة وكالة المخابرات المركزية في باريس. ومنذ عام 1967، كانت تحويلات الـ CIA المالية لأي منظّمة تجري عبر مؤسسة «فريدريش إيبرت» ومؤسسات أخرى.
وفق وثائقي ARTE وكتاب «الحرب الباردة الثقافية: وكالة المخابرات المركزية وعالم الفنون والآداب» (فرنسيس ستونور سوندرز، 2013، الطبعة الثانية) امتدّت عمليات وكالة المخابرات المركزية إلى لجنة جائزة نوبل في ستوكهولم. في أواخر عام 1963 أطلقت محطة وكالة المخابرات المركزية في باريس حملة للحؤول دون منح جائزة نوبل للآداب للشاعر التشيلي بابلو نيرودا عام 1964، بعد تسرّب معلومة أنّ اللجنة تبحث اسم نيرودا كمرشح لنيل الجائزة. كما أثبتت وثيقة داخلية تم الاستشهاد بها في فيلم ARTE الوثائقي أنّ الـ CIA تدخّلت عبر الأمانة العامة لجائزة نوبل في ستوكهولم وأرسلت ملفات ومقالات لأعضاء اللجنة لتصوير نيرودا على أنّه «سخيف ويعمل لصالح نظام ماركسي ستاليني النزعة». فاز بجائزة جون بول سارتر عام 1964، لكنّه رفض تسلّمها، ونجحت المخابرات المركزية الأميركية بتأخير منح الجائزة لنيرودا حتى عام 1971، فيما كانت تهيّئ لترشيح هاينريش بُل لنيل الجائزة التي حصل عليها في العام التالي (1972).
يؤكّد مينو أنّ هاينريش بُل «كان الماسة ضمن مجموعة وكالة المخابرات المركزية»


بحكم تفضيله غربياً على غيره من أبناء جيله من الأدباء، حاز بُل على جوائز ومناصب فخرية عديدة إلى جانب نوبل. عام 1953 نال جائزة «الثقافة للصناعة الألمانية» وجائزة «راديو جنوب ألمانيا» وجائزة «النقّاد الألمان». عام 1954 حصل على جائزة «تريبيون دو باريس»، وفي 1955 حاز الجائزة الفرنسية لأفضل رواية أجنبية. عام 1958 حصل على جائزة «إدوارد فون دير هايد» من مدينة فوبرتال وجائزة «الأكاديميّة البافارية للفنون الجميلة». وفي عام 1959 حصل على جائزة «الفن الكبرى» من ولاية شمال الراين وستفاليا، وجائزة الأدب لمدينة كولونيا، وانتخب عضواً في «أكاديمية العلوم والفنون» في مدينة ماينز الألمانية. عام 1960 أصبح عضواً في «الأكاديميّة البافارية للفنون الجميلة» وحصل على جائزة «تشارلز فيلون»، وفي عام 1967 نال جائزة «جورج بوشنر». واستمر حتّى وفاته في الحصول على الجوائز والمناصب الفخرية، كعضوية «الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب» وميدالية «أوزيتسكي» عام 1974 (الأخيرة لمساهمته ودفاعه عن حقوق الإنسان العالمية)، كما شغل منصب رئيس «رابطة الكتّاب العالمية» بين عامَي 1971 و1973.