فكّك فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي أكثر من ١٥ شبكة تجسّس إسرائيلية، كل منها منفصلة عن الأخرى، تنشط على مختلف الأراضي اللبنانية، وصولاً إلى سوريا، في واحدةٍ من أكبر العمليات الأمنية التي نُفِّذت منذ عام ٢٠٠٩ الذي سُجِّل فيه تهاوي شبكات الموساد الإسرائيلي واحدة تلو الأخرى. العملية الأمنية بدأها فرع المعلومات منذ أربعة أسابيع، بعد التنسيق مع النيابة العامة التمييزية وقيادة قوى الأمن الداخلي. ورغم العدد الكبير المشتبه فيهم بالتعامل مع العدو الإسرائيلي، إلا أنّ ضباط الفرع يتكتّمون، محاولين قدر الإمكان إحاطة العملية بسرية غير مسبوقة عبر الإجابة عن أسئلة المراجعين بشأن أسباب التوقيفات بأنّها حصلت على خلفية ملفات تزوير ومخدرات
الحرب المفتوحة التي تشنّها إسرائيل ضد لبنان توسّعت كثيراً في الأعوام القليلة الماضية. الأزمات الكبيرة التي تواجه البلد، سياسياً واقتصادياً، والهجمة الإعلامية الواسعة ضد المقاومة، والتدخل الخارجي المكثف، وتوسّع عمل المنظمات غير الحكومية المموّلة من جهات خارجية، كلها أدّت إلى كشف البلاد أكثر من أي وقت مضى. وزاد من دائرة الضغط الأمني على لبنان، التعاون المستجدّ بين الاستخبارات الإسرائيلية على أنواعها وبين جهات أمنية عربية ودولية.
لا يحيد العدو عن العمل المباشر ضد المقاومة. ولم يعد الأمر مقتصراً على لبنان فقط، بل يشمل كل الساحات التي يعتقد العدو بأن لحزب الله عملاً أو نفوذاً فيها، من لبنان وسوريا وفلسطين إلى العراق واليمن، بالإضافة الى إيران نفسها. وأظهرت معطيات ذات طابع أمني «حساس للغاية» أن أجهزة استخبارات العدو نجحت، خلال العامين الماضيين، في لبنان وسوريا وربما في أماكن أخرى، في تنفيذ مجموعة من العمليات الأمنية اللافتة في نوعية الأهداف وطريقة التنفيذ. ولم يتوقف العدو عن إرسال وحدات من النخبة للقيام بالعمل التنفيذي، إلا أنه لجأ في الوقت نفسه الى فرق أُخضعت لتدريب دقيق قادرة على التكيّف مع العمل في ساحات عربية، على طريقة عمل فرق «المستعربين» في فلسطين المحتلة، مع فارق أساسي يتعلق بطبيعة المهمة.
في مواجهة ما يقوم به العدو، طوّرت المقاومة أساليب الأمن المضاد. ونجحت، في كثير من الأحيان، في توجيه ضربات وقائية، وفي اكتشاف شبكات تجسّس أو عملاء منفردين، ما دفع العدو الى إدخال تعديل جوهري على آلية العمل، مستفيداً إلى حد كبير من التغييرات الكبيرة التي تشهدها ساحات المواجهة، وخصوصاً في لبنان وسوريا.
الى جانب المقاومة، أو بتنسيق غير مباشر معها، تميّز فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي بجهد خاص على جبهة مكافحة التجسس الإسرائيلي. وقد حقّق الفرع، في السنوات الماضية، إنجازات كبيرة صبّت في خدمة هذا الهدف. فتمكّن من الإيقاع بعدد من شبكات التجسس للعدو في مصيدته، وخصوصاً بعد التطور الكبير الذي شهده على الصعيد التقني وفي الاستعلام البشري، بالإضافة الى الخبرة في التحليل والرصد والقيام بمقاطعة المعطيات.
وقد أظهرت السنوات الماضية حرفية استثنائية لدى الفرع، جعلت المريدين والخصوم يثنون على قدرته الفائقة في تحليل جرائم جنائية خلال وقت قصير، وقدرته على تحقيق نتائج دقيقة لا تتعلّق فقط بجرائم تحصل على الأراضي اللبنانية، بل وأيضاً بأعمال تحصل خارج لبنان. ورغم أن الجهات الخارجية لا تعطي فرع المعلومات حقه في مجال مكافحة تهريب البشر والممنوعات، إلا أن الجميع يعرفون أن الفرع كان، ولا يزال، اللاعب الأبرز في ملاحقة ملف تهريب المخدرات، سواء عبر لبنان ومنافذه أو عبر وسائل أخرى، وقد زوّد الفرع عواصم عدة بمعطيات مكّنتها من إحباط عمليات إجرامية خارج لبنان.
قبل خمسة أسابيع تقريباً، أبلغ ضابط متخصص قيادة الفرع عثوره على إشارة تشير إلى عمل ذي بعد أمني. المتابعة اللصيقة للمشتبه فيه، بيّنت وجود صلة واضحة له بالعدو الإسرائيلي. عندها، بدأ الفرع أكبر عملية أمنية في تاريخه ضد التجسس الإسرائيلي، وتمكّن خلال أربعة أسابيع من وضع يده على ملفات تتعلق بالعشرات من المشتبه في تورطهم بمدّ العدو، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، وبعلم أو من دون علم مسبق، بمعطيات تتعلّق بأهدافه لا تنحصر فقط بجمع معطيات عن المقاومة ومراكزها، بل بعملية مسح شاملة تشمل أيضاً قوى المقاومة الفلسطينية الموجودة في لبنان، ولا سيما حركة حماس. وقد أظهر التوسع في التحقيقات مفاجآت كثيرة، منها:
أولاً: اكتشف فرع المعلومات وجود اختراق للعدو داخل الفرع نفسه، وفي موقع شديد القرب من قيادته. وتبيّن من التحقيق مع المشتبه فيه أن هدف الاختراق جمع معطيات مما يسمعه بحكم موقعه، وتحديد هويات ضباط في الفرع والأدوار التي يقومون بها.
ثانياً، تبيّن وجود خرق في حزب الله تمثل في تجنيد أحد عناصر «التعبئة في الحزب (وهو من بلدة جنوبية) شارك في مهام في سوريا. وقد أوقف جهاز أمن المقاومة المشتبه فيه، وتبيّن بالتحقيق معه أنه جُنّد بواسطة منظمة ادّعت أنها تعمل لمصلحة الأمم المتحدة، وتقوم بأعمال إحصاء ودراسات واستطلاع رأي.
آلية جديدة للتجنيد والتمويل... والموقوفون والملاحقون من كل المناطق والطوائف


ثالثاً، اكتشاف مشتبه فيه سوري موجود في دمشق، نسّق جهاز أمن المقاومة مع الأجهزة الأمنية السورية لتوقيفه. وقد أقرّ بأنه كان يعمل على رصد مقارّ مدنية وعسكرية وتجارية، ويوفّر خرائط طرقات ومبان في العاصمة السورية، من دون أن يعرف الهدف من وراء جمع هذه المعلومات.
رابعاً، تبيّن أن العدو تمكّن من اختراق عدد من العاملين في منظمات وجمعيات غير حكومية وتجنيدهم لجمع معطيات عن الوضعين السياسي والاجتماعي، ومعلومات عن عقارات ومنازل في الضاحية الجنوبية وفي الجنوب، إضافة إلى معلومات تقليدية عن مراكز لحزب الله وبعض مراكز الجيش، ومعلومات عن أفراد في حزب الله والاستفسار عن علاقات لأشخاص مع أفراد ومسؤولين في الحزب.
خامساً، اكتشاف وجود عمل مركّز على مجموعات حركة «حماس» في مخيمات لبنان، مع طلب المشغلين رصد قدوم أشخاص فلسطينيين من خارج المخيمات إليها، ورصد بعض الأمكنة التي يمكن أن تكون مخصصة للاستخدام العسكري. ويركّز التحقيق على صلة المشتبه فيهم (تم توقيف أحد المتصلين بـ«حماس») بانفجار مخيم البرج الشمالي في 11 كانون الأول الماضي.
سادساً، بين الموقوفين مهندسو اتصالات طُلب من أحدهم التخطيط لتأسيس مراكز اتصالات في بيروت. كما أن هناك شباناً يافعين لا خبرة لهم في أي مجال.
وخلال عملية الرصد والتحقيق، نجح فرع المعلومات في كشف آلية التواصل بين المشتبه فيهم ومشغّليهم وطريقة إيصال الأموال للمجنَّدين. وفي التفاصيل، فإن التواصل كان يتم عبر مواقع إلكترونية وغرف دردشة مغلقة، أو عبر اتصالات هاتفية بواسطة خطوط هاتف لبنانية. وبدا من ذلك، أن أجهزة أمن العدو أرادت تفادي تكرار خطأ «الرقم الأمني» الذي كان يُعتمد سابقاً وتم اكتشافه، إذ كان المشغّلون يلجأون الى منح العميل رقماً أجنبياً لاستخدامه في التواصل معهم. وبحسب معلومات «الأخبار»، فإنّ المحققين كشفوا أسلوب عمل جديداً للعدو الإسرائيلي مختلفاً عن السابق. فقد تبيّن أنّ معظم عمليات التجنيد حصلت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وأنّ دافع عدد من المتورطين كان الحاجة إلى المال بسبب تردي الوضع الاقتصادي، ما مكّن العدو من إغرائهم. وأحياناً، كان المشغّل يطلب معلومات بسيطة على سبيل التجربة لقياس مدى جدية العميل في التعاون.
أما في ما يتعلق بالدفعات المالية، فكانت تسلّم عبر شركات تحويل الأموال (...Western Union,OMT). وكان مصدر الأموال بلدان في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا. وتبيّن أن الأموال كانت تُحوّل بمبالغ صغيرة حتى لا تلفت الأنظار، بحيث تصنف في خانة المساعدات التي يرسلها المغتربون اللبنانيون الى ذويهم. كما أن بعض الحوالات كانت ترسل بأسماء أبناء المشغّلين أو أقربائهم من صغار السن. وبيّنت التحقيقات أنّ عدداً من الموقوفين قبضوا تحويلات بمبالغ تراوحت بين ١٠٠ دولار و ٢٠٠ دولار فقط، مقابل إعطاء معلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
عدد الذين خضعوا للتحقيق معهم على مدى الشهر الماضي تجاوز الـ 35 شخصاً، وقد أُوقف نحو 20 منهم لدى فرع المعلومات، فيما يوجد موقوف لدى جهاز أمن المقاومة، وموقوف آخر في سوريا. وأطلق سراح من تبيّن أنهم يقومون بأعمال مشابهة لم يثبت أن لها علاقة بالعدو.
الموقوفون توزّعوا على جنسيات لبنانية وفلسطينية وسورية، واللبنانيون منهم من كل الطوائف (سنّة وشيعة ودروز ومسيحيون)، وقد عملوا انطلاقاً من معظم المناطق اللبنانية، من بنت جبيل جنوباً الى طرابلس شمالاً، مروراً بصيدا وبيروت وجبل لبنان وكسروان. وقد أظهرت التحقيقات أن 12 من الموقوفين على الأقل كانوا على علم بأنهم يعملون لمصلحة العدو الإسرائيلي، وأن البقية كانوا يعتقدون بأنهم يعملون لمصلحة مؤسسات دولية أو منظمات غير حكومية. كما تبيّن أن من بين الموقوفين من نجح في نسج علاقات وثيقة مع «بيئة المقاومة»، ما سهّل لهم التحرك في مناطق الجنوب والبقاع والضاحية، كما أن أحدهم عمل حتى توقيفه مع شخصية بيروتية بارزة.
ويفترض في الساعات المقبلة أن يلجأ فرع المعلومات إلى تزويد الجهات القضائية المختصة بمحاضر التحقيقات تمهيداً لاتخاذ القرار بإحالة الموقوفين الى المحكمة العسكرية مع المضبوطات التي تشمل كمية من الأموال.



«درونز»
تبيّن أن أحد الموقوفين، وهو من طرابلس، برّر تعامله مع العدوّ بأنه يكره حزب الله و«مستعد للقيام بأي شيء ضد الحزب». وقد اعترف بأنه بادر الى الاتصال بالإسرائيليين الذين نقلوه في إحدى المراحل إلى الأردن، حيث خضع لدورات متخصصة ولفحص كشف الكذب، ثم أُخضع لتدريب على استخدام طائرات من دون طيار. وقد زُوّد بإحداها واستخدمها في بعض مهامه.


«كلّن يعني كلّن»
أحد الموقوفين، اسمه الأول سيرجيو، وهو يعمل في واحدة من الجمعيات التي نبتت بعد 17 تشرين 2019، أقرّ بأنه تلقّى تمويلاً لشراء آلاف الكمامات من أجل توزيعها بعد أن يطبع عليها عبارة «كلّن يعني كلّن... نصر الله واحد منن».


شرائح هاتفية في كتاب
أقرّ أحد الموقوفين بأنه، مقابل 300 دولار، خبّأ شرائح هاتفية (Sim cards) في ثقب أحدثه داخل أحد الكتب، قبل أن يشحنه إلى عنوان خارج لبنان بواسطة DHL.


إفادات عقارية وشقق للإيجار
أقر ثلاثة من الموقوفين بأنهم، بناءً على أوامر من مشغّليهم، عملوا على الاستحصال على إفادات عقارية لمعرفة أسماء مالكي عقارات في مناطق مختلفة، كما طلب منهم استئجار شقق في عدد من المناطق وترك مفاتيحها في أمكنة معيّنة.