الشهيدة مريم فرحات (40 عاماً)

أطلّت من نافذة بيتها لترى ما إذا كان أولادها قد عادوا من مدارسهم... ثم قتلت. كان هذا المشهد الأخير في حياة مريم فرحات التي استشهدت برصاصة في الرأس. قبلها، كانت مريم أماً لخمسة أطفالٍ، أصغرهم وآخر عنقود البيت هاجر، ابنة السنوات الخمس التي عادت أول من أمس على غير عادتها إلى منزل خالتها. هذا ما قررته العائلة، كي لا يعلق في رأس الصغيرة من أمّها الدم الذي كان يُغرق الممرّ في البيت الكائن في منطقة الطيونة. عندما وصلت هاجر إلى منزل خالتها، سألت عن مريم، فكانت الإجابة «إمك مسافرة»، ولا تزال حتى اللحظة تظّن أن سفر أمها لن يطول كثيراً. أمس، في وقت دفن مريم، كانت هاجر تلعب مع بنات خالاتها. أما البقية، ومنهم زينب كبيرة العائلة والعروس منذ أربعة أيام، فكانوا يودعون والدتهم لمرةٍ أخيرة. وحدها، أم الشهيدة كانت الأشد صلابة. كانت مسنودة إلى الصبر، عندما اتكأت على ابنها وهي تقول له «كلنا رايحين ع الآخرة (...) الله يرزقنا حسن خاتمتها يا ابني (...) بدّك تتصبّر». كيف لأمٍ تفقد ابنتها قتلاً أن تكون بكل تلك الجسارة؟
قبل أن تستشهد بخمسة أيامٍ، كانت مريم تزف ابنتها عروساً، وكانت تلك المرة الأولى التي ترقص فيها فرحاً لابنتها. لكن، تتذكر شقيقة زوج ابنة الشهيدة، نور جابر، أن «مريم تلك الليلة راقصت أمها كثيراً وحضنتها بعمق، وهو ما دفع الأم للقول: شو بها هيدي». هل كان الفرح هو ما دفعها لذلك؟ اليوم، بعد موتها، يوقن المقربون منها أنه لم يكن كذلك.
بعد زواج ابنتها، كان خوف مريم من النوم من دون زينب. كانت قلقة من الأيام الأولى لما بعد فراق ابنتها، إلا أنه لم يطل القلق كثيراً، فقد أتت رصاصة وأنهته.

الشهيد
مصطفى زبيب (26 عاماً)


«يا عبد الله قلو لمصطفى احترق قلبي». هذا آخر ما بقي لأم مصطفى زبيب من وحيدها: حرقة القلب. لم يكن يخطر في البال أبداً أن تقف يوماً وتحمل صورة مصطفى وتنتظر عودته الأخيرة إلى بلدته كي تشيّعه، لكنها فعلت ذلك أمس. دفنته وعادت بقلبٍ خاوٍ... وصورته الأخيرة بلباسه العسكري، والتي على الأرجح هي نفسها التي ستعلّقها في دارها.
قبل تلك الصورة، كان مصطفى، ابن السادسة والعشرين، شاباً كغيره من أبناء جيله مكافحاً في هذه البلاد. حمل في عمر مبكرة مسؤوليات كبيرة: مسؤولية العيش وحيداً، حيث ترعرع في منزل جديه لأبيه بعد انفصال والديه، ووحيداً بعدما تزوجت شقيقته في عمرٍ صغير. عاش مصطفى في منزل جديه... وفي المعسكر، حيث قضى الجزء الأيسر من عمره هناك، كان خلالها متفرغاً بكليّته لـ«التنظيم»، على ما يقول أقاربه. كما تفرّغ أخيراً للعمل في منصب نائب المسؤول التنظيمي في حركة أمل في بلدته النميرية.
كان من المفترض أن يحتفل مصطفى غداً بمرور عامٍ على خطوبته، إلا أنه سقط برصاصة مزّقت قلبه قبل يومٍ واحدٍ عند دوّار الطيونة.

الشهيد
علي إبراهيم (32 عاماً)


علي البوب. لا يعرف الشهيد علي إبراهيم في «أماكنه»، ما بين النويري وبربور، بغير هذا اللقب. كسبه منذ الصغر، كما كسب ودّ كل من يعرفه. كانت ابتسامته الواسعة بطاقة عبوره إلى قلوب هؤلاء. «عطول ضحكان»، يقول صديقه علي مرعي، وكانت صورة أمس الوحيدة التي رآه فيها بلا تعابير.
لم تكن حياة علي تشبه ضحكته القوية. عاش وشقيقه اليتم مبكراً، إذ توفيت والدتهما وهما في عمرٍ صغير، وبقيا وحيدين إلى أن تزوج والدهما وبات لهما كثير من الإخوة والأخوات. مع ذلك، لم يعش علي «حياة البيت». بدأ العمل مبكراً وعاش «بالمحلّات»، يقول صديقه، إذ كان ينام في المحال التي كان يستأجرها للعمل. تنقّل بين أعمالٍ كثيرة، إلى أن استقر في الفترة الأخيرة في عمله في أحد المطاعم كعامل توصيلات. في اليوم المشؤوم، كان يوصل طلباً إلى منطقة الطيونة، ولم يكد يصل إلى هناك حتى بدأ الرصاص ينهمر. في تلك اللحظة، لم يكن يهم علي سوى التواصل مع رفاقه لإخبارهم بما يجري لتجنب الدخول إلى المنطقة. أرسل رسالة صوتية عبر تطبيق الواتس آب ثم اختفى. مات علي بعد دقائق من رسالته الأخيرة. قتله رصاص القنص.

الشهيد
حسن مشيك (29 عاماً)


يقال إن حسن مشيك كان أول من تلقى رصاص القناصين. لفظ أنفاسه الأخيرة سريعاً، بعدما خرقت رصاصة رأسه. يصدّق حسين، شقيق الشهيد ذلك، لأنه يعرف جيداً أن حسن «كان قدّ عشر رجال وصاحب نخوة». هذه الصفات تفترض، بحسب حسين، أن يكون حسن أول المبادرين. كان يفترض بحسين أن يكون مع شقيقه في التظاهرة، إلا أن عملاً طرأ عليه في بلدته كفردان في البقاع. لا يشعر الشقيق بالحزن، بقدر ما هو الذنب لترك شقيقه وحيداً.
في اليوم المشؤوم، تلقى حسين اتصالاً من أحد أقاربه يقول له بأن حسن استشهد. لم يستوعب الخبر، إلى أن تأكد من ذلك عبر الأخبار الواصلة، عندها أعدّ العدّة إلى بيروت، وكانت وجهته الأولى مستشفى الساحل «أخذت أخي وغسلته وكفنته ومررت به إلى بيته في منطقة صحراء الشويفات ثم إلى الضيعة».
كان حسن صغير العائلة، ولكنه «كل شيء في البيت». عاش منذ صغره متنقلاً بين المعسكرات ومقاتلاً حتى استشهد «وصار شهيد حركة أمل الثالث بعد شهيدين في العائلة». قبل كل ذلك، كان حسن أباً وشديد التعلق بطفليه، وكان «شغّيل» يخرج منذ الصباح الباكر إلى عمله ولا يعود قبل المساء. أمس، غادر حسن بيته إلى غير رجعة، وترك خلفه أماً مفجوعة بصغير العائلة.

الشهيد
حسن نعمه (57 عاماً)


في الطائرة، عرفت ابنة الشهيد حسن نعمه أن أباها قتل عند دوار الطيونة. قرأت الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي ولم تصدّق أن دعوة عائلتها لها كانت لتشارك في دفن والدها. أمس، كانت وحيدة حسن ممزقة القلب، وشقيقاها أيضاً.
صباح يوم الكمين، كان حسن يتجهز للمشاركة في التظاهرة. قبل أن يخرج من المنزل، أوصى زوجته بابنه صغير العائلة، حسين، الذي يعيش وزوجته وابنتهما في منزل ذويه. كان «كثير التعلق بحسين، لأنه الوحيد الذي كان يعيش في لبنان، فيما شقيقه وشقيقته كانا مسافرين»، تقول زوجة ابنه. عندما جاء خبر حسن، امتلأ البيت «بالمحبيّن لأنه كان شخصاً استثنائياً ليس فقط في عائلته، وإنما في الحي حيث كان يقيم».
عاش حسن جلّ سنواته الـ57 في خدمة «التنظيم». هذا ما يقولونه للمنتسبين إلى حركة أمل، وكان «من الطبيعي» أن ينهي تلك الخدمة «شهيداً». تؤكد زوجة ابنه أن «عمّي» قضى في الطيونة فيما كان «عم يبعّد الشباب عن مكان الاشتباكات».

الشهيد
محمد تامر (24 عاماً)


قبل أن يسقط شهيداً، كان محمد كبير العائلة المكونة من 3 أولاد. هم بالترتيب: محمد وفاطمة وخليل. كان أكثرهم هدوءاً وحباً للحياة. على عكس عمله السرّي في «المقاومة»، كان محمد يجاهر بحبّه للحياة «وين كان فيه فرحة كان محمد موجود»، تقول والدته عبير. من دون أن يسأل سائل، لا تبخل أم محمد في سرد مواصفات بكرها، ولا تعرف في الأصل «من أين سأبدأ بالحديث عن محمد. عن الشاب المطيع الخدوم والمحبوب ويللي كل الناس بتحلف فيه؟». ربما، لكل تلك الصفات «اختاره الله شهيداً، لأن هني هول الطاهرين يللي بيختارهم الله شهداء».
على عكس هدوئه، كان محمد يملك الكثير من الأصدقاء، وكان له مكان محبّب للسهر «الغرفة يللي مدفون فيها ابن عمو محمد طلال تامر»، يقول أمير، صديقه في العمل. غالباً، ما كان أمير يتردد إلى تلك الغرفة في بلدته بنهران في الكورة. جهزها محمد بـ«قعدة وتلفزيون»، وعندما كان يأوي إلى الغرفة أصدقاء جدد كان الشهيد يحرص على تعريفهم بـ«محتوياتها»، فيقول «هون قبر ابن عمي وهون التلفزيون وهون الكنباية وهون مطرح الكراسي قبري». كان قد هيأ لموته مسبقاً «إلى جانب ابن عمه»، يقول أمير. أمس، عندما شيّع محمد دفن «محلّ الكراسي».


الشهيد
محمد السيد (36 عاماً)


آخر الصور التي علقت في الأذهان عن الشهيد محمد السيّد خروجه حاملاً سلاحه الثقيل على كتفه قبل أن يهوي صريعاً. قيل الكثير عن تلك الصورة التي استغلّت لتبرير قتله بتلك الطريقة. لكن، ما قبل تلك الصورة، كان يمكن الحديث مطوّلاً عن الشاب الذي أجبرته مشاهد القتل المجاني على دوار الطيونة على الخروج بتلك الهيئة.
لم يكن محمد شاباً مقتدراً. كان «شغّيلاً»، كما معظم الذين سقطوا عند الدوار. فقراء الأحياء المهمّشة. يكدّ ليعيش. وكان أباً لـ«طفلين جميلين»، كما يقول شقيقه عباس. مات محمد أو، كما يقول عباس، «ربّ البيت» وانتهى كل شيء. كان محمد بالنسبة إلى أشقائه «البيت كلّو»، يقول الشقيق الذي دفن «هذا البيت» للتوّ. حتى «أبو محمد»، بائع العصير في شارع أسعد الأسعد في الشياح، يوقن أن محمد كذلك. لا يشعر بوجوده عندما يكون محمد، واليوم بات «يتيماً». وقد بدا يتمه أمس طاغياً وهو «يشوّح» بصورة ابنه بين المشيّعين. لم يترك محمد إرثاً كبيراً. فقط صورة وبائع عصيرٍ وطفلين جميلين.