لا بأس أن تلجأ إلى العيش في فقاعة حفاظاً على صحّتك النفسية والجسدية في عالم تتعرّض فيه لعنف دائم. بل إذا كنت قادراً على ذلك اللجوء، وغير قادر على فعل أي شيء يفيد ناسك وشعبك ويرفع عنهم ذلك العنف، فمن الأفضل أن تلتزم فقاعتك وتستتر في نعيم الملجأ (كم هي بشعة كلمة ملجأ في ذاكرتنا الجماعية). أما أن تكون فقاعياً وتتعاطى الشأن العام، فمن الطبيعي أن تكون خارج المكان والزمان للأحداث، وأن تدّعي مناصرة قضايا تظنّها أولويات الشعوب، بينما هي لا تتعدّى كونها ترفاً ووهماً فقاعياً.هناك تقليد شائع في إعطاء الحروب تواريخ بداية ونهاية، توقيت الرصاصة الأولى والطلقة الأخيرة. كما يحبّذ تحديد السياق الجغرافي للحرب والجبهات وخطوط التماس. إذ يعطي ذلك الناس راحة نفسية بمحدودية الحرب المكانية والزمانية وإمكانية الفصل بين مراحل الحرب والسلم. فعندما تنتهي الحرب يليها بطبيعة الحال السلم، وذلك يمنح الناس القدرة على اختتام مرحلة، ويساعدهم على طمس الفاجعة والاستمرار في الحياة التي لا تتوقف ولا تبطئ وفقاً لمزاج الأفراد، بل تكمل بوتيرتها نفسها منذ الأزل وإلى ما لا نهاية، حتى لو فنيت فصائل من الكائنات الحيّة بما فيها البشرية. في الواقع، هناك نظريات علمية تقول إن الأيام تطول جزءين بالألف من الثانية كل قرن، لكن لن ندخل في هذه المعادلة في حين أننا نعيش كل يوم بيومه.
الحرب في لبنان انتهت في 13 تشرين الأول 1990 وفقاً للرواية الشعبية وويكيبيديا، وهي ذكرى لا يحييها إلا من هُزِم في ذاك اليوم وعاد ليرأس البلاد اليوم. عمّ السلم مذّاك ولا سيّما على جسر المطار وفي قانا عام 1993 وفي قانا عام 1996 إلى جانب الاغتيالات والسيارات المفخخة وجريمة قتل القضاة الأربعة في 1999، والتي لا تزال صيدا تمنع تجوّل الدرّاجات النارية فيها لأن القتلة كانوا يتجولون على درّاجات نارية، فارتأى في حينها القضاء اللبناني الاقتصاص من وسيلة تنقّل بدل الجناة الذين تواروا عن الأنظار. وتبعها طبعاً شرق أوسط جديد لم يرَ النور وسلم نهر البارد و7 أيار وكذبة النأي بالنفس الكبرى التي شارفت على نهايتها بعد عقدٍ من الزمن الدموي. الواقع هو أن الحرب لم تنتهِ في السفارة الفرنسية في الحازمية في 13 تشرين الأول 1990 ولم تبدأ في عين الرمانة في 13 نيسان 1975، بل إنها تأخذ أشكالاً متنوّعة، وباتت تعرّف في يومنا هذا بالحرب الهجينة. إذ تتعدّد أساليبها وجبهاتها وهي ممارسةٌ يومية للعنف على الشعوب حتى الإخضاع، أو القتل. فمهندس إفلاس اليوم، على سبيل المثال، جنرالٌ من جنرالاتها جاء على ظهر قاذفة يوروبوندز نيوليبرالية في التسعينيات، وأمراء تقاسم غنائم السلم الأهلي اصطفوا جنداً في المنظومة إلى جانب كارتيلات الاحتكار الرأسمالي.
خلال هذه الحقبة من السلم الأهلي كانت الفقاعية أسهل الخيارات للخلاص الفردي، إذ لا جدوى من المواجهة في زمن السلم. نشأت فقاعات تنفيعية في الدولة وفقاعات قطاع خاص في مجمعات سكنية مسوّرة (كومباوندات) مجاورة لآبار النفط لمن أرادوا البقاء في الجوار. وطبعاً ظهرت فقاعات صغيرة في المدينة تتعاطى شؤون السلام والخطاب الحقوقي الليبرالي الخالي من السياسة، وذلك لأن الحرب باتت وراءنا ولا شيء يفصلنا عن الازدهار والحرية، بل الحريات بالدزينة، إلا الحكم الرشيد. حدث كل ذلك في خضم حرب أهلية عربية كبرى، تلت غزو الولايات المتحدة لأفغانستان والعراق، ولُوِّنت بألوان الربيع. وشهدت الحقبة صعود حركة الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر وتونس، ثم تصفيتها من قبل العسكر في الأولى وجاري اجتثاثها في الثانية. كما ظهرت دولة إبادية في العراق والشام محت الحدود وقروناً من التطور البشري قبل أن تهزم بفضل تضحيات آلافٍ ممّن لم ينعزلوا عن شعوبهم ومصيرهم. لم يعنِ أي من ذلك فقاعيي وفقاعيات لبنان الكبير، هذا ولم نتطرّق بعد إلى فلسطين وتطوّر المواجهة فيها عسكرياً وعلى الجبهات الأخرى.
النأي بالنفس ضرورة على المستوى الشخصي في بعض الأحيان. لكن لا ينطبق ذلك على وطن، ولبنان ليس فقاعة مهما كثر الفقاعيون فيه. ما يميّز الفقاعة هو غلافها الهش الذي تمحوه نفخة هواء، فما بالك إذا خرقتها رصاصة. فهناك حقيقة لا يمكن إنكارها وحرب متعددة الجبهات وجنود يحاربون، وهناك من يعتدي وهناك من يقاوم. قد يصبر مقاوم على اعتداء ويعضّ على جرح بداعي البصيرة أو الضعف المرحلي، لكن المعتدي لا يهادن فهو يملك ترف القدرة على ممارسة العنف النظامي اليومي، بل هو ما يُحييه.
في لبنان فقاعة مؤثرة ومستأثرة بالإعلام والشأن العام، أو بالأحرى تأثيرها منفوخ ومنتفخ إلى أقصى حدّ. لا يمكن انتفاخها أكثر دون أن تستسلم لهشاشتها وتخلي مساحتها للحقيقة الصلبة. في هذه الفقاعة نما وهم ثورة منذ عامين، واستبدل بحلم المنقذ الفذّ الحامل لميزان العدالة والقادم لإحقاق الحق من كنف الدولة الفاسدة والمرتهنة. «كلّن يعني كلّن» إلا هو. هذه الدولة لا تنأى بنفسها عن كل اعتداء فحسب بل ترحّب به. منذ عام ونيّف أصدرت واشنطن عقوبات على وزيرين سابقين بتهمة تمكين مجموعة مصنّفة بالإرهابية من قبل من يصنفون أنفسهم قادة العالم الحرّ. لم تحتجّ الدولة اللبنانية على العقوبات على «رجالات دولة منها وفيها» ولا على تصنيف من حرّر أرض لبنان من احتلال بالإرهابي، بل يبتسم قائد جيشها في صوَرٍ مذلّة إلى جانب سفيرة واشنطن حين توبّخه أو تتكارم عليه بالخردة. هذه الدولة هي نفسها اليوم تلاحق نفس الوزيرين في ادّعاء غير متصل بتهمة واشنطن لهما، وسط حماسة الفقاعة التي نأت بنفسها عن كل صراعات الأعوام الأخيرة لتقرّر فجأة أن هذه هي معركتها. قرار أن تكون «بوز المدفع» الأميركي ما بعد مشهد مطار كابول لا يمكن أن يتخذه إلا فقاعيّ «عايش بالخسّة». نصيحتي لك، اشتغل على الانتخابات وابقَ في الخسّة، واترك المعارك الجدية للجدّيين، فلن تنتهي الحرب إلا باستئصال آخر نفوذ لأسيادك من منطقتنا.