في الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت، يشكّل مقرّ الرئاسة الثالثة أبلغ صورة عن لبنان. السرايا الكبيرة، حيث يسيّر رئيس السلطة التنفيذية شؤون البلاد والعباد وحيث يستقبل كبار المسؤولين وممثلي الدول، لم يرفع آثار 4 آب بعد... لأن لا مال لديه!
الشروخ والندوب التي أزيلت عن مئات المنازل والمباني المتضرّرة في محيط المرفأ، لا تزال حاضرة في السرايا الحكومية التي بنيت منتصف القرن الثامن عشر. لم تعد الساعة العثمانية الطراز أو القرميد القرمزي ما يجذب الناظر إلى الصرح الضخم المرتفع فوق التلة في وسط بيروت. إنما أغطية النايلون التي تغطي النوافذ البيضاء المستطيلة.
النايلون يلمع تحت أشعة الشمس ويمزّقه المطر والريح خلف أغطية النوافذ الخضراء.

علي حشيشو


الجولة داخل السرايا مقرّ الحكومة، كأنها جولة داخل لبنان المتهاوي. بين الزينة الفاخرة تطل الندوب. مصعد تحطّمت واجهته فحاول أهل السرايا تجميله بتغطية بابه بالزرع. باب خشبي مزخرف ضخم أسند بلوح. السقوف المعلقة والسقالات الخشبية مهشّمة ومتدلّية على الأرض. حتى التمديدات الكهربائية والكابلات وأجهزة التكييف والإضاءة والخدمات. حتى جناح منامة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب هبطت سقوفها وواجهتها. طوال الشتاء الماضي، كانت الأسقف تمطر منها. كل شيء تضرّر في السرايا إلا تلك اللافتة الرخامية الشهيرة: «لو دامت لغيرك لما اتصلت إليك»!

إنه التحدي الأكبر أمام السرايا منذ الحرب الأهلية. أعيد ترميمها وأضيفت عليها طبقات وأجنحة وافتتحت عام 1998. منذ ذلك الحين، لم تخضع لعملية ترميم. السبب الرئيسي هو جودة المواد التي استخدمت في ورشة الترميم في التسعينات. وهو ما قلّص من حجم الأضرار في انفجار المرفأ.

علي حشيشو

لكن في عام 2020، تراجعت السرايا عقوداً إلى الخلف. يظن كثر بأن إحدى واجهات لبنان خضعت للترميم سريعاً. لكن الواقع، بحسب الأمين العام لمجلس الوزراء القاضي محمود مكية، هو أن موظفي السرايا والعناصر الأمنية المولجة حمايتها شمّروا عن زنودهم بعد الانفجار وأزالوا ما أمكن من الردم والركام. «أحضروا أدوات التنظيف والمعاول والمكانس من بيوتهم. السرايا ليست مجهزة» يقول مكية. ربما لم يخطر في بال أهل السرايا بأن الدولة قد تصل يوماً إلى هذا الانهيار.

لكن مبادرة الموظفين والأمنيين التي ظنوا بأنها أولية كانت الأولى والأخيرة. يؤكّد مكية أن أياً من الجمعيات والمتطوعين الذين ضاقت بهم الكرنتينا والجميزة والمرفأ والأشرفية... لم يصلوا إلى السرايا الحكومية. لم تعرض أي جهة مدنية محلية أو أجنبية المساهمة في رفع الأضرار أو الترميم. حتى سفارات الدول العربية والغربية التي أفردت مساعدات متنوعة بعد الانفجار، لم تشمل بهباتها السرايا.

لم ينتظر مكية طويلاً. «لم ندع باباً لمساعدتنا على تصليح الأضرار إلا وطرقناه. لكن للأسف من دون جدوى». وتابع شاكياً «وضع السرايا مبك. لا نملك مالاً لشراء حتى النايلون». الوضع المزري ينسحب على تشغيل الخدمات اليومي. يلفت مكية إلى أن الأضواء والماكينات والكاميرات في السرايا أطفئت لساعات الأسبوع الماضي بعد نفاد مادة المازوت في ظل التقنين القاسي في التيار الكهربائي! «انعزلت السرايا عن العالم نهائياً لولا جرى تأمين كمّية مازوت تكفينا لأيام قليلة، فتقرّر الاكتفاء حالياً بإطفاء الأنوار الخارجية فقط».
تلك الدولة التي لا تملك نوراً، لا تملك بارقة أمل. قاطنو السرايا متساوون مع شعبهم في الترقيع بما تيسّر.
علي حشيشو

بعد الانفجار مباشرةً، استعان مكية بشركة لتقييم الأضرار في الخشب والزجاج والألمنيوم وتحديد كلفة ترميمها لعرض الأسعار على الجهات المانحة والمتبرّعين. تبيّن أن التصليح يحتاج إلى ورشة ضخمة بكلفة حوالي تسعة ملايين دولار. «من الممكن تخفيض الفاتورة إلى خمسة ملايين في حال دفع المموّل للشركات المنفذة أتعابها بالدولار الطازج».
وضع مكية، بالتعاون مع دياب، خطة للترميم الأولي. بدأت الاتصالات بالإدارات الرسمية من وزارة المال لنقل اعتماد من احتياطي الموازنة. ثم بمجلس الإنماء والإعمار للاستعانة ببعض الهبات، فالهيئة العليا للإغاثة لإعطاء سلفة أو نقل اعتماد، فغرفة التجارة والصناعة في بيروت برئاسة محمد شقير والتي ساعدت على تصليح وزارة المالية وإدارات أخرى. كل المحاولات المحلية فشلت، فانتقلوا إلى مناشدة الأصدقاء. طرحت فكرة مع الهيئة العليا للاستفادة من هبة المليون دولار التي قدّمتها أذربيجان لترميم المباني الحكومية المتضررة من انفجار المرفأ. «إلا أن حصة السرايا من الهبة هذه هي الثلث فقط ولا تكفي لتغطية الأضرار» يوضح مكية. حصيلة الاتصالات مع الدول العربية والغربية وعود لم تتحقق حتى الآن.

عاد أهل السرايا إلى بيتهم الداخلي لإيجاد مصدر للترميم. «قرّرنا طرح مناقصة عمومية لتصليح السرايا ومعها 230 مبنى حكومياً متضرراً عبر الهيئة العليا للإغاثة. نشرنا إعلان المناقصة في الجريدة الرسمية لم يتقدّم أي عارض. ثم طرحنا مناقصة ثانية لتصليح الألمنيوم في السرايا فقط فجاءنا عارض وحيد بكلفة 22 مليار ليرة وكان الدولار حينها بـ 7 آلاف ليرة، أي ما يزيد على 3 ملايين دولار» يقول مكية.

لأوّل مرة تنقلب الآية؛ المباني التجارية والسكنية المجاورة لمبنى السرايا جرى ترميمها وإصلاحها وعدد منها بأموال الـ NGO's. أهي الاستنسابية التي لطالما اتُهمت بها السلطة- عن حق؟ أم هي استضعاف السلطة استقواءً بهول جريمة 4 آب وبعضٍ مما تبقّى من هالة 17 تشرين؟ فحانات الجميزة ونايتات مار مخايل نالها من ود المجتمع الدولي جانب، بينما السرايا توقف بها الزمن عند السادسة وثماني دقائق من مساء 4 آب 2020.

أحجم المتعهدون المحليون عن التعاطي مع الدولة. لم يعد مربحاً مع انهيار سعر صرف الليرة أمام الدولار لأنهم سوف ينفذون أشغالهم بالدولار ويقبضون بالليرة على سعر الصرف الرسمي، ما يكبّدهم مبالغ طائلة. أمّا عن الجهات الغربية، فقد أحجمت عن التعاطي مع الدولة لأنها فقدت الثقة بمسؤوليها. وصلت أصداء التشكيك إلى مكية. «هناك انطباع لدى الغربيين بأن هباتهم سوف يسرق نصفها. أكدنا بأننا لن نستلم أموالاً، إنما هبات عينية فقط».
الحل الوحيد المتبقي قد يجده أهل السرايا في «فضلات الهبات» الدولية المقدّمة سابقاً. لعلّها الحل الوحيد لتصليح السرايا يكمن في الفضلات تلك. «ننتظر مجلس الإنماء الذي يقوم بجرد تلك الفضلات لمعرفة المبالغ الصافية» يختم مكية شكواه.