«تسييس التحقيق»، هي التُّهمة التي توجّه للمحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار. وهذه التُّهمة تحوّلت إلى قناعة راسخة لدى الفريق السياسي الذي ينتمي إليه المدعى عليهم الجُدد في أكبر انفجار غير نووي شهدته مدينة بيروت. ينطلق هؤلاء في ادعائهم من استبعاد القاضي بيطار مسؤولية سياسيين وأمنيين من خانة الشبهة والادعاء، لا سيما قيادة الجيش الحالية المتمثّلة بقائد الجيش العماد جوزيف عون ومدير المخابرات السابق طوني منصور. ويأخذون عليه قبوله من قائد الجيش هاتفاً عسكرياً ومجموعة عناصر من فرع المكافحة في الجيش لمرافقته وحمايته في تنقلاته منذ توليه التحقيق، بينما كان الأنسب له وللتحقيق، لكون الجيش مشتبهاً فيه، ومراعاة لاستشعار الحرج، بأن يكون عناصر حمايته ومرافقته من قوى الأمن الداخلي على اعتباره الجهاز الوحيد الذي أسعفه الحظ بعدم وجود مكتب له في مرفأ بيروت. بالتالي، فإنّه خارج الشبهات في نظر المحقق العدلي.كذلك يُضاف إلى قيادة الجيش كل من وزراء العدل والدفاع والداخلية ورؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على الحكم منذ دخول نيترات الأمونيوم مرفأ بيروت. ويرى أصحاب «نظرية المؤامرة» أنّه طالما أنّ الحُكم استمرارية، فإنّ مقتضى العدالة كان يفرض على القاضي بيطار أن يشملهم بالادعاء والشبهة، ريثما تتبين الحقيقة كاملة بظهور البراءة أو ثبوت الإدانة عوضاً عن التشهير بفئة من دون أُخرى. ويُعزز هؤلاء فرضيتهم بأنّ أهالي ضحايا مرفأ بيروت كانوا يُشكِّكون بأداء القاضي بيطار لدى تعيينه، إلا أنّه بادعائه الذي طال فيه المسؤولين المذكورين تمكن من كسب الأهالي إلى جانبه. وينطلقون من هذه النقطة ليتحدثوا عن شعبوية تحكم عمل المحقق العدلي ويستدلّون عليها بإبلاغه المدعى عليهم عبر الإعلام. ويتحدث أحد المسؤولين المدعى عليهم لـ«الأخبار» عن توجه لإقامة شكوى ضد القاضي بيطار لطلب رده جراء المقابلة الصحافية التي أجراها مع وسيلة إعلامية (موقع تلفزيون «العربي»)، خارقاً سرية التحقيق وموجب التحفُّظ ومبدياً موقفاً في الملف ومستبقاً انتهاء التحقيق باستبعاده بعض الفرضيات.
هذه الاتهامات يُرَدُّ عليها في قصر العدل بأنّ المحقق العدلي لم يُسرِّب الادعاء أو البلاغات عبر الإعلام، إنما عمد إلى إرسالها إلى النيابة التمييزية بمغلّف مغلق لإرساله إلى المجلس النيابي ووزارة الداخلية ورئاسة الحكومة. وكذلك فَعَل عندما رفض تزويد المجلس النيابي بمستندات إضافية بشأن النواب المدعى عليهم لاعتباره ذلك خرقاً لسرية التحقيق، ليُراسلهم عبر النيابة العامة التمييزية ووزارة العدل قبل أن يُفاجأ المحقق العدلي نفسه بقراره منشوراً في الإعلام. وفي ما يتعلق بقبوله الحماية من الجيش، فإن التبرير بأن «الجيش هو جيش الوطن ولا يُمثّله بضعة ضباط وإن كانوا في دائرة الشبهة». أما بشأن عدم شمول الادعاء الجميع، فتتحدث مصادر معنية بالتحقيق أنّ «المنهجية المتبعة في رسم مسار التحقيق أوصلت إلى الادعاء على المذكورين لكون التحقيقات المجراة ولدت قناعة لدى القاضي بوجود شبهة تقصير عليهم». أما تهمة أنّ معظمهم ينتمون إلى فريق سياسي واحد، فتُجيب المصادر بأنّها مردودة لكون القاضي أصلاً ليس محسوباً على أي فريق سياسيّ، مذكرة بأنّه لو كان هناك نية مبيتة بالاقتصاص من طرف من دون آخر، لما كان رفض القاضي بيطار تولّي الملف في المرة الأولى عندما عُرِضَ عليه. بالتالي، فإنّ ذلك يعني أنّ هناك أسماء أُخرى سيُصار إلى الادعاء عليها تبعاً لمجريات التحقيق.
وفد أميركي وآخر فرنسي يزوران البيطار بسبب موقوفَين من رعايا البلدين


وبالعودة إلى مسؤولية الجيش، تُبرر مصادر التحقيق بأنّ المحقق العدلي لم يدّعِ على العماد جوزيف عون والعميد طوني منصور لكونه لا يوجد أي مستندٍ يُثبت معرفتهما بأمر النيترات. ويُستدل بذلك من التدقيق في المستندات التي سلّمها الجيش للمحقق العدلي، والتي تُبيّن أنها بمعظمها كانت أيام القيادة السابقة مع العماد جان قهوجي. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى مسألة بالغة الأهمية. إذ إنّ عامي 2013 و2014 (تاريخ دخول النيترات وتفريغ السفينة) كانا أكثر عامين شهد فيهما لبنان تفجيرات إرهابية وانتحارية. وهذا وحده كان يفرض أن يكون هناك استنفاراً استثنائياً للجيش على اعتبار أنّ هذه التنظيمات كانت تستخدم النيترات في تصنيع المتفجرات، إلا أنّ الاستخفاف والتهاون الذي تعاملت به قيادة الجيش يومها لم يكن له أي تفسير. ولكن، رغم الادعاء بأنه لا وجود لمستندات تبيّن معرفة القيادة الحالية بأمر النيترات، تُحيل مصادر مطلعة المحقق العدلي إلى برقية صادرة عن غرفة عمليات الجيش عام 2018 تُبلغ فيها عن غرق السفينة روسوس في مرفأ بيروت والتي كانت محمّلة بالنيترات. وإن لم يكن هذا المستند كافياً، فإنّ ذلك لا يُعفي القيادة الحالية من مسؤولية الإهمال بالمطلق.
لا تقف الاتهامات التي توجه للقاضي بيطار عند حدّ. يُتَّهم المحقق العدلي بأنّه يُنفِّذ أجندة سفارات أجنبية تسعى لاستغلال انفجار مرفأ بيروت كـ«قميص عُثمان» لإعادة إشعال النار في الشارع اللبناني المُعبّأ أصلاً ضد السلطة السياسية. غير أنّ ما يؤخذ على البيطار لجهة لقائه بوفود من سفارات أجنبية، فله تبريراته في العدلية. فقد علمت «الأخبار» أنّ المحقق العدلي استقبل وفداً من السفارة الفرنسية ووفداً من السفارة الأميركية لسؤاله عن اثنين من الموقوفين في ملف الانفجار، لكون أحدهما يحمل الجنسية الأميركية فيما الثاني (مهندسة مسؤولة عن عمل الشركة التي تولت التلحيم) يحمل الجنسية الفرنسية. وكانت الزيارتان، بحسب مصادر قضائية، من ضمن الإجراءات القنصلية العادية التي تقوم بها جميع السفارات عندما يتم توقيف أحد رعاياها في لبنان.
أخذٌ ورد لا يبدو أنه سينتهي في القريب العاجل، بل سيشتدّ مع كل يومٍ نقترب فيه من ذكرى انفجار الرابع من آب. تصعيدٌ في المعسكرين واتهاماتٌ كثيرة لن يكون المحقق العدلي في منأى عنها، إلا أنّ الثابت أنّ القاضي بيطار لن يتراجع بملء إرادته.



«سيدنا... هيدا سماد زراعي»
في ملف التحقيق بانفجار المرفأ، تظهر إفادات عدد من الموقوفين والمستجوَبين، كيفية تعامل القوى الأمنية مع «القنبلة» التي انفجرت في مرفأ بيروت ودمّرت أجزاء منه مع أحياء من بيروت، وتسببت بسقوط أكثر من 200 شهيد وآلاف الجرحى. قبل الانفجار بأسابيع، وردت إلى رئاسة الحكومة معلومات من المديرية العامة لأمن الدولة عن النيترات في المرفأ. فبعث رئيس الحكومة حسان دياب ضابطاً يعمل في السرايا الحكومية إلى الميناء لاستطلاع الأمر، تمهيداً لقيام دياب بزيارة المرفأ والكشف عن وجود مواد متفجرة وإعلان التخلص منها لإنقاذ بيروت من كارثة. وصل الضابط الذي التقى يومها الرائد في أمن الدولة جوزيف النداف. ألقى نظرة على العنبر رقم 12 من الفجوة الموجودة في جواره، ثم تنحى جانباً ليُجري اتصالاً قال فيه: «سيدنا... هاي سماد زراعي»، هنا تدخّل الندّاف ليقول له إنّها مصنّفة متفجرة بسبب نسبة الآزوت العالي. وأخبره أنّ ذلك مذكور في المانيفست الذي عرضه عليه. أكمل الضابط اتصاله مع ضابط أعلى منه رُتبة ثم انسحب. لاحقاً، نُصِح دياب بصرف النظر عن مسألة زيارة المرفأ وفكرة إعلان «اكتشاف» كمية من المواد القابلة للانفجار في قلب العاصمة.