كل واحد يعمل في الإعلام له قصّة عن جان عبيد. جان عبيد يوصَف بصديق الجميع: الجميع أصدقاؤه وأحباب قلبه. أنا شخصيّاً لا أرتاح إلى أصدقاء الجميع، مثل بيل كلينتون عندنا هنا. جان عبيد كان في صف الأحزاب التقدميّة في الستينيّات وعمل في إعلام "الصيّاد" و"الأنوار" عندما كانت ناصريّة. أذكر "الصيّاد" عندما رأس تحريرها وكانت عندي البديل الأفضل عن "الحوادث" التي مثّلت أسوأ نموذج لصحافة الارتزاق والارتهان والبروباغندا الخليجيّة والغربيّة الخبيثة (خصوصاً بعد موت عبد الناصر وتقرّب سليم اللوزي من الأمير فهد يومها). "الصيّاد" كانت ملتزمة بما كنّا نسمّيه "القضايا الوطنيّة" - اليوم أصبح فؤاد السنيورة وجيفري فلتمان ووليد جنبلاط ونبيه بري ورياض سلامة يمثّلون "القضايا الوطنيّة". كان عبيد قريباً من البعثيّين لكن من دون الانضمام الرسمي، بحسب علمي. لكن بعد فترة الحرب تحوّل إلى صديق الجميع، الكل أحباب قلبه: قريب من سليمان فرنجيّة وقريب من كمال جنبلاط وأصدقاء كمال جنبلاط من توفيق سلطان الى محسن دلّول مثلاً... كان فصيحاً وبليغاً كما هو معروف و«لبقاً». هذه الكلمة كانت لصيقة به. اللباقة تعني الكثير للبنانيّين: هي بديل المبدأ والمبدئيّة. كنْ لبقاً، والباقي عليّ. وكان بالتأكيد معادياً للإسلاموفوبيا، لعلّه تعرّف عليها في نشأته اللبنانيّة وثار عليها بقراءة دائمة للقرآن ونهج البلاغة (هو في ذلك مثل نصري سلهب وجورج جرداق وغيرهما). لكن حبّ الإسلام من قبل غير المسلمين يسرّ المسلمين إلى درجة مزعجة - لي - إذ إن بعض المسلمين يريدون من غير المسلم الذي يحبّهم أن يتحوّل إلى الإسلام و«يخلّصنا بقى». هذه مثلما تقول لجمهور جامعيّ مسيحيّ هنا عن موقف الإسلام من المسيحية ومن يسوع المسيح وعن موقعه في الإسلام فيعترضون بقوّة: ان على المسلمين أن يقبلوا بالمسيحيّة وإلا فـ«ما يقرّبوا صوب المسيحيّة ورموزها».كان عبيد مستشاراً لالياس سركيس الذي يمكن اختصار عهده الطائفي بأنه كان تمهيداً لتنصيب بشير الجميّل رئيساً. ثم عمل مستشاراً لأمين الجميّل: صديق للنظام السوري وصديق لأمين الجميّل وصديق لسليمان فرنجيّة وصديق لرفيق الحريري وصديق لأمراء آل سعود. لكنه كما روى لغسان سعود كان يصرّ على أن يرسل للأمراء هدايا من عنده إمعاناً في الصداقة. صديق الجميّل في أسوأ مرحلة، ولو كان عبد الناصر حيّاً لكان صديقه أيضاً، كما كان صديق حافظ الأسد. ماشى الجميّل في ١٧ أيّار، لكنه صاغ بيان الجميّل في إلغاء ١٧ أيّار، وأصبح ضدّه. أصبح قريباً من عبد الحليم خدّام ومن رفيق الحريري، وكاد يصبح رئيساً بعد اغتيال رينيه معوّض، لكن خدّام أراد تدجينه أكثر فأكثر. خلال مرحلة سيطرة النظام السوري على لبنان، حظي جان عبيد بمقعد في أوّل مجلس نيابي معيَّن (كيف يقبل «نائب» بالتعيين، وكيف قبل غسان مخيبر بتعيين من رستم غزالة عندما لم تعجب الأخير انتخابات في المتن؟). كان على علاقة ودودة بالجميّل في السياسة، مع مؤيّدي المقاومة ومع معارضيها، لكن عبيد لم يصرّح ضد المقاومة يوماً على علمي. عمل وزيراً للخارجية في عهد إميل لحّود، لكنه بالرغم من قربه من النظام السوري كان شديد القرب من سعود الفيصل وكان يشكو إليه همومه - اكتشفنا ذلك بعد اغتيال الحريري عندما تبيّن أن أقرب حلفاء النظام السوري كانوا حلفاء على مضض، بحسب وصفهم, أو بالإكراه - بالإكراه في النيابة والوزارة وفي رئاسة الوزارة، كما روى السنيورة في محكمة الحريري الدوليّة، وكيف أن الحريري كان يبكي على كتفه بسبب معاناته في رئاسة الوزراء -. كم عانيت في حكم لبنان، يا رفيق الحريري! مسكين هذا الرجل.
لم أعرف جان عبيد إلا بعد أن بدأتُ الكتابة في "الأخبار" - أو عرفته من صوته وعن بُعد. كان يسأل عن رقم هاتفي في الجريدة، ويبدو أنه لم يحظ إلا برقم هاتف مكتبي - وأنا قليل الحضور في المكتب. وكان عبيد اللبق والدمث واللطيف يترك رسائل معاتبة دائماً على ملاحظة نقديّة أو ساخرة مرّت في مقال لي، وكان شديد الإلحاح في أن أتحاور معه. مرة ترك رقم مكتب له، ولما اتصلت لم يكن هناك أحد، لأن ذلك تزامن مع موعد المساء في لبنان. مرة واحدة بعد أن ترك عدة رسائل على هاتفي الخلوي اتصلتُ به وتحدثنا طويلاً، وكان بالفعل لطيفاً ودمثاً، وأنا لي حشرية في سؤال من كانت له تجربة غنيّة مثل تجربته، سؤاله، عن الكثير من الأشخاص والحوادث وحاولت ذلك. هل ترك مذكرات له؟ أعلم أنه يحتفظ بمذكرات إميل بستاني، قائد الجيش في حقبة شارل حلو (كان والد زوجته)، ولم يُفرج عنها للصحافة، وإنْ أطلع نقولا ناصيف عليها.
العزاء لعائلته ومحبّيه (وهم كثر طبعاً في حالة صديق الجميع).

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا