في أيلول الفائت، دخلت باخرة آتية من اليونان المياه الإقليمية اللبنانية، وتوقّفت قبالة منشآت النفط في الزهراني. سريعاً، سوّقت استخبارات الجيش اللبناني خبريات تشير إلى أن الباخرة محمّلة بموادّ ممنوعة، بناءً على كتاب معلومات «مجهول» المصدر. جرى تفتيش الباخرة، فتبيّن أنها محمّلة بمادة البنزين. التحقيق مع طاقم الباخرة، أظهر أنها آتية من اليونان، وأنها محمّلة بكمية من البنزين جرى شراؤها من الدولة الأوروبية. في الوقت عينه، بدأت «ماكينة» أمنية تروّج لشائعات تفيد بأن الباخرة محمّلة ببنزين من منشآت الزهراني، وأن هذا البنزين مدعوم من مصرف لبنان يُراد تهريبه إلى سوريا. وزجّت الماكينة اسم شركة لبنانية، يستهدفها كارتيل النفط بالشائعات، لأنها تتعامل مع شركات روسية. الماكينة إياها روّجت هذه الشائعات إلى حدّ أن محاولة التدقيق بها مع مصادر مختلفة، كانت تضعها في مصاف «المعلومات المؤكدة». لكنها لم تكن سوى شائعات.

التحقيق الذي أجرته استخبارات الجيش (لا أحد يعلم وفق أي نص قانوني تحرّكت في قضية هي في حدها الأقصى جمركية) والنيابة العامة الاستئنافية في الجنوب، توصّل إلى تحديد هوية مالكي شحنة البنزين، ووجهتها، ومسارها. البنزين اشتُرِي من اليونان، ودُفع ثمنه، ولا صلة له بأموال الدعم اللبنانية. وطاقم الباخرة أراد الالتفاف على عقوبات قانون قيصر الأميركي، فأبلغ اليونانيين أن وجهته لبنان. وقصد المياه الإقليمية اللبنانية لتسجّل مواقع الرصد «حركة دخول» إلى «بحر الزهراني». وكان ينوي بعد قضاء وقت قصير قبالة الشاطئ الجنوبي، إطفاء أجهزة تحديد الموقع الجغرافي، وأن يتجه شمالاً نحو الساحل السوري، لكن جرى توقيفه.
المعضلة اليوم أن ثمّة من زيّن لقيادة الجيش أن في مقدورها مصادرة السفينة وحمولتها، بناءً على المرسوم رقم 6338 الصادر يوم 15 أيار 2020، والمنشور في الجريدة الرسمية يوم 21 أيار، تحت عنوان «مصادرة جميع المواد التموينية وكافة أنواع المحروقات وبوجه عام جميع المواد المدعومة من الخزينة العامة والتي يتم إخراجها من لبنان». عنوان المرسوم واضح. فهو يمنح السلطات حق مصادرة المواد المدعومة بأموال عامة، والمراد تهريبها من لبنان، لما في ذلك من ضرر على الاقتصاد الوطني، وعلى موجودات مصرف لبنان. كيف ستتم إذاً مصادرة حمولة باخرة الزهراني وحمولتها؟ نص المرسوم يتحدّث عن مصادرة «جميع المواد التي يتم إدخالها أو إخراجها من لبنان بصورة غير شرعية»، «كما تُصادر أيضاً السيارات والآليات المستعملة لهذه الغاية».
وبحسب مصادر معنيّة بالتحقيق، فإن قيادة الجيش قرّرت مصادرة البنزين، دون السفينة، على اعتبار أن مصادرة السفينة ستُعد أمراً مبالغاً فيه، بحسب مصادر رسمية! وتستند قيادة الجيش إلى نص المرسوم، متجاهلة أنه إنما صدر لمكافحة عمليات التهريب التي تستنزف الخزينة العامة، بحسب ما هو وارد في «عنوانه» في الجريدة الرسمية. وقد أصدره مجلس الوزراء في إطار إجراءات مكافحة التهريب إبان فترة التعبئة العامة الخاصة بجائحة كورونا. وليس فيه، قانوناً، ما يتيح مصادرة البنزين من باخرة الزهراني، إلا إذا تقرّر التحايل على نصه وتفسيره وفق ما تشتهيه واشنطن، التي تعاقب الشعب السوري عبر حرمانه من استيراد ما يحتاج إليه.
المعضلة الثانية أن أحداً من القوى السياسية لا يجرؤ على إثارة هذا الملف، لسببين: الأول خشيتها من اتهامها بتعريض لبنان لعقوبات قانون قيصر، والثاني أن المنخرط في عملية المصادرة ليس سوى قيادة الجيش، التي «لا تُمَس».
أمام هذا الواقع، يجري إدخال لبنان، رغماً عنه، في دائرة الدول التي تشارك في محاصرة سوريا. ولا بد هنا من أن تُقال الأمور بوضوح: من حق السوريين القيام بكل ما هو متاح لهم، للتحايل على قانون قيصر، وغيره من قرارات العقوبات الجائرة. والمشاركة في سرقة ما يشترونه بالقليل مما بقي لديهم من أموال، إنما هي جريمة بحقهم، وإعلان للعدوان عليهم. وليس المطلوب من لبنان أن يتحمّل ما لا طاقة له به. كل المراد هو ألا يكون شريكاً في العدوان على سوريا.
هذه القضية تحتاج إلى تدخّل عاجل من رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون. وكما في الناقورة، حيث من غير المسموح تحويل مفاوضات تقنية إلى مفاوضات سياسية يريد العدو استغلالها لتمرير أجندة التطبيع، وتهدف واشنطن إلى جعلها مدخلاً لمسار سياسيّ، كذلك في الزهراني، من غير المسموح استخدام «شبهة» تقنية للسطو على موارد شحيحة للشعب السوري، بناءً على أوامر أميركية. كل واحدة من الخطيئتين تجلب عاراً لا يُمحى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا