بعد 11 سنة على انطلاق عملها، أعلنت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حُكمها باغتيال رئيس مجلس الوزراء السابق، رفيق الحريري. المُتهمون كانوا أربعة تربطهم في حزب الله علاقة: سليم عياش، حسين عنيسي، أسد صبرا، حسن مرعي. أما «ارتكاب الذنب» فحصرته المحكمة بعيّاش، وجاء في القرار أنّه «ارتكب عملاً إرهابياً عبر أداة متفجّرة وقتل رفيق الحريري عمداً». أما مرعي وعنيسي وصبرا «فغير مُذنبين في ما يتعلّق بجميع التُهم المسندة إليهم». في ما خصّ القائد الشهيد، السيّد مصطفى بدر الدين (استشهد في سوريا سنة 2016)، وعلى الرغم من أنّ القانون الدولي وقانون المحكمة الخاصة لا يُتيح اتهام أو إدانة شخص مُتوفٍ، فقد نال حصّته من هذا النهار الطويل. قيل إنّه كان يحمل اسماً مُستعاراً «هو سامي عيسى، وكان لديه حرّاس وشقّة في منطقة جونية (كسروان) وقارب ومتجر مجوهرات». اتُهم بأنّه «تولّى عملية رصد الحريري، وقام بتنسيقها مع عيّاش، تمهيداً للاعتداء. ويتضح تورّطه من خلال استخدامه لهاتف من الشبكة الخضراء (يُزعم أنّها شبكات مُقفلة تابعة للمجموعة التي نفذّت عملية الاغتيال)». قبل أن تعتبر غرفة الدرجة الأولى في المحكمة أنّه «لا يُمكن أن تقتنع أنّ بدر الدين كان العقل المُدبّر للاعتداء كما يُزعم». قرار المحكمة الدولية لم يحمل أي «جديد». قد يكون البعض «خاب أمله» من عدم تحميل حزب الله المسؤولية الرسمية والسياسية عن عملية الاغتيال، ولكن مُجردّ لصق التُهمة بعيّاش، رغم عدم وجود أدلّة كافية، لا يُعفي توجّه «المجتمع الدولي» الضمني بإبقاء سيف المسؤولية مصلتاً على حزب الله. فضلاً عن أنّ القراءة السياسية التي قدّمها قاضي المحكمة تحمل الكثير من التلميحات إلى وجود «مصلحة» لسوريا وحزب الله في ما حصل: «الأشخاص المتهمون بالجريمة يرتبطون بجهة منظّمة والأدلة تشير إلى أنّ الاغتيال كان سياسياً (…) الاستدلال المنطقي الأقوى الذي يمكن استخلاصه من الأدلة الموجودة هو أنّ الذين وضعوا المتفجرات هم إمّا جزء من المؤامرة أو محل ثقة كافية لضمان ألا ينكشفوا، ولا نستطيع أن نحدّد أي الحالين كان قائماً في الواقع هذا إن كان أحدهما قائماً فعلّاً». رغم ذلك، القرار لم يحُدّد أي دور رسمي لحزب الله في عملية الاغتيال، كما لم يربط بينه وبين المُتهمين. فقد اعتبرت المحكمة أنّه «كان لحزب الله وسوريا استفادة من اغتيال الحريري، لكن لا يوجد دليل على مسؤولية قيادتي الحزب وسوريا في الاغتيال. (الأمين العام لحزب الله) السيد حسن نصر الله ورفيق الحريري كانا على علاقة طيبة في الأشهر التي سبقت الاعتداء».
جلسات تلاوة الحُكم تميزّت برتابة قاتلة، وبكثرة التحاليل السياسية وقلّة الأدلة الجنائية. فاعتبر قاضي المحكمة الدولية أنّ «الأدلّة أظهرت أنّ سوريا كانت تُهيمن إلى حدٍّ بعيد في لبنان، وأراد النظام السوري أن يُمدّد ولاية الرئيس السابق إميل لحّود والسبيل الوحيد للقيام بذلك كان عبر تعديل الدستور. الرئيس السوري بشار الاسد أمر الحريري بتأييد التمديد للحّود». وأضاف بأنّ «قرار الاغتيال تزامن مع زيارة (وزير الخارجية السوري) وليد المعلم إلى منزل الحريري، إضافةً إلى اجتماع في فندق البريستول لمعارضي الوجود السوري»، مُعتبراً أنّ «اغتيال الحريري هو عملٌ إرهابي نُفّذ لأهداف سياسية لا لأهداف شخصية». وفي الإطار نفسه، سمح القاضي لنفسه باستنتاج أنّه «يمكن تفسير الاعتداء على مروان حمادة بأنّه كان تحذيراً للحريري وجنبلاط لعدم تجاوز حدودهما مع سوريا».
اغتيال شخصية كرفيق الحريري، «استلزم الكثير من التحضير المُحكم بما يشمل جمع معلومات مفصّلة عن تحرّكاته وأفراد موكبه… متابعة تنقّلاته تؤكّد الترصّد وليس الصدفة». لذلك، ارتكزت «قضيّة الادّعاء على أدلة الاتّصالات، ونظر المحقّقون في سجّلات ملايين الاتصالات لاكتشاف أدّلة، وتمّ التدقيق في سجلات الهواتف التي استُخدمت في محيط مجلس النواب ومكان الاغتيال». المُتهمون الأربعة «حُكموا غيابياً، وبلغ العدد الإجمالي للشهود 297 شاهداً». وزعم القرار بأنّ «سليم عياش وحسن مرعي ومصطفى بدر الدين استخدموا شبكات اتصالات للتنسيق لاغتيال الحريري بعد مراقبته بشدة، وقد استُخدمت الشبكات في الأشهر التي سبقت الاعتداء، وجزء منها كان أعمالاً تحضيرية لاغتياله». أما عياش «فكان يستخدم 4 هواتف، وكان يملك شقّة في الحدث ويعمل في الدفاع المدني». عيّاش «المُتهم»، بيّنت سجلات الأمن العام اللبناني والسعودي أنّه خرج من لبنان في كانون الثاني للحجّ، وعاد في 22 كانون الثاني. ولكن «نقطة التباين» هي في أنّ الأمن العام اللبناني سجّل خروج ابنة عيّاش أيضاً، في حين أنّه لم يظهر لها أثر في السعودية، ما بُرّر سابقاً بأنّه نتيجة الضغط خلال فترة الحج، قد لا تكون سجلات الدخول والخروج بين البلدين دقيقة 100%. ولكن، تبيّن أنّ بطاقة عياش المصرفية استُخدمت في السعودية خلال تلك الفترة، ما يعني أنّه كان فعلاً خارج البلد. وقد رجّح القرار أن يكون الاغتيال قد نفذّه انتحاري، قاد شاحنة «ميتسوبيشي» سُرقت من اليابان «وبيعت في طرابلس لرجلَين مجهولي الهوية».
ماذا عن أبو عدس «الشهير»، الذي انتشر له فيديو بعد الانفجار يتبنّى عملية الاغتيال؟ وجدت المحكمة أنّ «الغرض من فيديو أبو عدس كان صرف النظر عن الفاعلين الحقيقيين وبث الخوف في نفوس اللبنانيين. هو تعرّض لخديعة أو وافق طوعاً على تسجيل الفيديو. ما من استنتاج صريح بشأن مصير أبو عدس ويُرجّح أنّه توفي بعد اختفائه بوقتٍ قصير». وبحسب المحكمة، «ما من دليل موثوق يربط بدر الدين وعنيسي وصبرا باختفاء أبو عدس». واعتبر القرار أنّه بعد وقوع الانفجار في 14 شباط 2005، كانت بيروت «في حالة فوضى وأزمة، وأشارت الأدّلة إلى جوّ الاضطراب الذي كان سائداً ما أدّى إلى عبء زائد على شبكة الهواتف الخليوية»، مُتهمةً السلطات اللبنانية باتباع «نهج فوضوي في التحقيق ضمن مسرح الجريمة في الفترة التي أعقبت الانفجار، ولم تتم حماية مسرح الجريمة، وقوى الأمن الداخلي أزالت أدّلة مهمة جداً وتمّ العبث بمسرح الجريمة». بعد الانتهاء من تلاوة القرار، حدّدت المحكمة موعد 21 أيلول لإصدار العقوبة.

سعد الحريري: لا تنازل عن حقّ الدم
شارك رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في جلسات تلاوة الحُكم في لاهاي اليوم، ممثلاً عن عائلة رفيق الحريري. وألقى في ختام الجلسات كلمةً تميّزت بعنوانين: الأول تسليم المُتهمين ونيلهم القصاص العادل، والثاني دعوة حزب الله إلى التضحية والتعاون قبل الانتقال نحو مرحلة بناء الدولة. خطاب «متوازن»، لا يُدغدغ القوى الإقليمية التي تشترط على الحريري التصعيد بوجه «الحزب»، كشرط لعودته إلى السرايا الحكومي.
فأكّد الحريري أنّ «القصاص العادل للمجرمين مطلب لا مساومة عليه. باسم عائلة الشهيد رفيق الحريري، وكلّ الشهداء والضحايا، نقبل حكم المحكمة ونطلب تنفيذ العدالة. لا تنازل عن حقّ الدم»، حاملاً مطلباً جديداً هو «معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة لكلّ الأبرياء الذين سقطوا في انفجار مرفأ بيروت. الحقيقة والعدالة مطلب الجميع، لا تدفعوا الناس إلى المواجهة». اعتبر الحريري أنّه بعد قرار اليوم، «انتهى زمن استخدام الجريمة بالسياسة من دون عقاب»، مُصعّداً بأنّه «نقول للجميع أن لا يتوقّع أحد منا المزيد من التضحية. ضحّينا بأغلى ما نملك، ولن نتخلّى عن لبنان الذي دفع الشهداء حياتهم من أجله. مَن مطلوب منه التضحية اليوم هو حزب الله، الذي أصبح واضحاً أنّ شبكة التنفيذ من صفوفه، وربما اعتقدوا أنّه لهذا السبب لن تطالهم العدالة». ولكنّ المحكمة لم تُوجّه اتهاماً سياسياً لأحد؟ ردّ الحريري بأنّ ذلك «ليس من عملها، ولكن رئيسها تكلّم بالأسباب السياسية التي أوصلت إلى اتخاذ قرار الاغتيال. رفيق الحريري اغتيل لأنّه كان ضدّ النظام السوري».
ماذا لو لم يقبل حزب الله تسليم المُتهم؟ أجاب الحريري بالتمسك بالعيش المُشترك «فهذا هو الأساس. وإذا أردنا أن يسود العيش المشترك، يجب أن يعترف كلّ منا بأخطائه، ونكون صادقين مع بعضنا البعض، لننتقل إلى مرحلة بناء الدولة. حزب الله يجب أن يتعاون، وأظنّ أنّ المحكمة الدولية أظهرت من المصداقية ما يؤكّد أنّها غير مُسيّسة». وردّاً على سؤال أحد الصحافيين الأجانب، قال الحريري إنّ «توقعات اللبنانيين كانت أكبر من الحُكم الذي صدر، ولكنّه قرار مُرضٍ لنا ونقبله، ونعتقد أنّه لا يزال هناك الكثير من التفاصيل المخفية».
وهو يُلقي كلمته، كانت النائبة بهية الحريري تزور ضريح شقيقها في وسط بيروت، بمشاركة قيادات ومناصرين لتيار المستقبل. توجّه سعد الحريري برسالة إلى العائلة الصغيرة: نازك الحريري، شقيقه الأكبر بهاء، بقية أخوته وشقيقتيه، عمّته بهية وعمّه شفيق، زوجته لارا العظم وأولاده. قال لهم: «هذه اللحظة كلنا انتظرناها على مدى 15 سنة، تُذكرنا أنّه مهما حصل نبقى عائلة واحدة ووجعنا واحد وقلبنا واحد. هذا عهدي لوالدي الشهيد. لا أحد أكبر من بلده، ولا أحد أكبر من قرار اللبنانيين بالحقيقة والعدالة».

ميشال عون: لتكن مناسبة للوحدة والتضامن
أصدر الرئيس ميشال عون بياناً بعد صدور الحُكم، اعتبر فيه أنّ «تحقيق العدالة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفقائه يتجاوب مع رغبة الجميع في كشف ملابسات هذه الجريمة البشعة التي هدّدت الاستقرار والسلم الأهلي في لبنان، وطاولت شخصية وطنية لها مُحبوها وجمهورها ومشروعها الوطني». ودعا عون إلى أن يكون الحكم «مناسبة لاستذكار مواقف الحريري ودعواته الدائمة إلى الوحدة والتضامن وتضافر الجهود من أجل حماية البلد من أيّ محاولة تهدف إلى إثارة الفتنة».