«يوريكا»، هتفت إسرائيل بأعلى صوتها أمس - جيشُها وإعلامُها وساستُها (من أُذِن له بالحديث منهم). ما اعتقدت أنها «وجدته» - بعد طول تأهب واستنفار - كان العملية الانتقامية التي تترقب أن تنفذها المقاومة رداً على قتل غارةٍ إسرائيلية أحدَ مجاهديها في محيط دمشق. قدر الحماسة الذي تبدّى في التفاعل الاحتفالي مع «اكتشاف خلية حزب الله» في مزارع شبعا، دفع إسرائيل إلى الهرولة عاريةً في مقاربتها العلنية للحادثة، قبل أن تتلقّى دفقاً من الماء البارد، صبّه عليها بيان المقاومة مساءً. لو لم يكن المرء معادياً لإسرائيل، لكان جديراً به أن يشفق عليها؛ أما والحالُ أننا أعداء جذريون لها، فالأجدى أن نتأمل ما حدث من زاوية جذرية. لندع جانباً الأداء الفضائحي لجيشها في التعامل مع الحدث، فهو سيكون على الأرجح وجبة دسمة على مائدة إعلامها المفترس. الحال نفسه بالنسبة إلى أداء قيادتها السياسية الراهنة. أفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت وآخرون من «أهل الدار» سيتكفّلون بتعريتها، وقد شرعوا في ذلك. أما وسائل الإعلام وسلوكها «العالم ثالثي» مع الحادثة: الخفة، الامتثالية، الإرباك والتخبّط – فحسبها أسواط السخرية والهزء التي ستُعْملها فيها وسائل التواصل الاجتماعي، وستُخلّف على جلدها ندوباً قاسية.
(أ ف ب )

تعنينا «إسرائيل الكيان»، أو «إسرائيل الدولة»، وهي دولة عظمى، في معايير الإقليم. هكذا تقدم نفسها، وهكذا يشهد لها الأعداء والأصدقاء. إسرائيل هذه، رغم جبروتها العسكري، تكابد منذ نحو عقدين عقدةً «حلولية»، ألمّت بها ذات خطاب، فأصابت منها مقتلاً لمّا تبرأ منه. هي «أوهن من بيت العنكبوت»، كما وصفها الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في خطاب التحرير ببنت جبيل قبل عشرين عاماً. والعبارة نفسها تحولت إلى نظرية في إسرائيل، تعني، بحسب موشيه يعالون، قائد الأركان ووزير الحرب السابق، طرحاً يتلخص في التالي: «إسرائيل دولة قوية عسكرياً، لكن مجتمعها المدني هو مجتمع رفاهية مدلل غير مستعد للقتال. في مقابل قوة الجيش الإسرائيلي وتفوّقه التكنولوجي والاستراتيجي، لا يبدي الجمهور الإسرائيلي استعداداً للتضحية بحياة أبنائه من أجل الدفاع عن مصالحه القومية وأهدافه الوطنية. لذلك، فإن إسرائيل مثل بيت العنكبوت، تبدو قوية من الخارج، لكن عندما تلمسها تتفكك» (هآرتس 28/2/2002).
بعبارة أخرى، تستثني هذه النظرية - من وجهة النظر الإسرائيلية - الجيش الإسرائيلي من صلاحية سريانها، وترى فيه بيتاً محبوكاً من «خيوط الفولاذ»، كما استهوى الجيش نفسه أن يطلق على سلسلة من عملياته إبان حرب تموز 2006، من دون أن يُوفّق طبعاً إلى مطابقة المسمّى (وقائع العمليات) مع الاسم. في كل الأحوال، الجيش الإسرائيلي ظل يرى نفسه خارج الإطار النظري والتطبيقي لنظرية بيت العنكبوت، بل جهد طوال سنوات من بناء الجاهزية وجولات من العمليات والحروب لتفنيد مباني تلك النظرية وتقويض أسسها.
لكنه - وعلى امتداد كل هذا الجهد - كان على الدوام يصطدم بواقع الجبهة اللبنانية، بلد المنشأ لتلك النظرية. هنا كان يقف عاجزاً، ليس حصراً عن الترجمة الإيجابية لـ«تفوّقه التكنولوجي والاستراتيجي»، ولا عن منع المقاومة فيها - العدو الأول بحسب تصنيفه - من معاظمة قدراتها الاستراتيجية إلى ما وراء خطوطه الحمر بأشواط، بل حتى عن ردعها التكتيكي عن تنفيذ عملية ثأر معلنة عقاباً له على خطأ ارتكبه وأرسل من يعتذر باسمه عنه.
ما شهدته الحدود اللبنانية الفلسطينية في الأيام الأخيرة، كما في الخريف الماضي (عملية أفيفيم)، هو حالة استسلام استثنائي يمارسه الجيش الإسرائيلي أمام إرادة المقاومة وقرارها بالرد على قتل إسرائيل لأحد مجاهديها. استثنائية هذا الاستسلام تتجلى، من بين جملة أمور، بالثمن المعنوي الكبير الذي لا يجد الجيش الإسرائيلي حرجاً في أن يدفعه مذعناً، على صعيد هيبته وصورته أمام نفسه ومجتمعه وكل الآخرين من أصدقاء وأعداء.
إجراء «الإجر ونص» - وربما سيأتي وقت قريب نشهد فيه تحريراً معرفياً له في الموسوعات العسكرية - هو في الظاهر سلسلة تدابير ميدانية هدفها تصفير الأهداف أمام عملية معلنة للمقاومة، لكنه في الجوهر تعبير أولي عن سريان ضمني لصلاحية نظرية «بيت العنكبوت» على الجيش الإسرائيلي. هذا الجيش الذي - إذا استعرنا مفردات يعالون - يبدو قوياً من الخارج، لكنه، في مواجهة إرادة المقاومة الصلبة، يكون عرضة لهلع يفقده توازنه؛ وفي مواجهة بأسها ذات يوم، سيكون عرضة للتفكك كما هو وعْدُ سيد المقاومة.