شكّل قانون السرية المصرفية عند إقراره في 3 أيلول 1956 تحوّلاً جذرياً في المسار النقدي والاقتصادي في لبنان. فما إن أقرّ حتى فُتحت خزائن المصارف أمام الأموال والرساميل الهاربة من بلدانها، فكان أن تكونت سيولة ضخمة. اليوم، تغيرت الأمور تماماً. عنصر الجذب تعطّل. النظام الضريبي العالمي الذي انضم لبنان إليه أفرغ هذه الميزة من مضمونها. الثروات الأجنبية المخبأة في المصارف، صارت مكشوفة بحكم دخول لبنان في مجموعة من المعاهدات التي فرضت عليه إقرار قانون تبادل المعلومات الضريبية. ذلك أدى عملياً إلى إلغاء السرية المصرفية أمام الإدارات الضريبية الأجنبية، على رأسها الأميركية. مع ذلك، ظلت الودائع تتدفق إلى لبنان وإن بوتيرة أقل، وأبرزها من لبنانيين مغتربين، بسبب الفوائد العالية التي تقدمها المصارف.
بعد الأزمة المالية غير المسبوقة، التي كانت أوّل تداعياتها مصادرة المصارف لأموال المودعين، سقطت كل عوامل الجذب التي كان يؤمّنها النظام المصرفي اللبناني… وبالتالي سقط النظام المصرفي، بالشكل الذي كان معروفاً به. هذا يعني تلقائياً عدم جدوى استمرار السرية المصرفية، التي تحولت عملياً إلى أداة لجريمتين: التهرب الضريبي والإثراء غير المشروع.
منذ سنوات، يناقش تعديل قانون السرية المصرفية في مجلس النواب. وصل اليوم إلى نهاية الطريق، بوصفه جزءاً من سلسلة قوانين تتعلق بمكافحة الفساد، أبرزها:
قانون الإثراء غير المشروع، الذي ينصّ التعديل المقترح عليه على أن يصرّح أي مواطن يتولى مسؤولية عامة عن أملاكه في الداخل والخارج عند تعيينه، ثم كل ثلاث سنوات، وبعد انتهاء عمله.
قانون استرداد الأموال المنهوبة الذي يتضمن آلية تعقّب وطلب واسترداد الأموال من الخارج، بعد ثبوت تورط أصحابها بالإثراء غير المشروع.
قانون إنشاء هيئة مكافحة الفساد، الذي أقرّه مجلس النواب وردّه رئيس الجمهورية رفضاً للتمييز بحق الحزبيين الذين يمنع القانون أن يكونوا أعضاء في الهيئة، ويُتوقع أن يعود المجلس ليؤكد عليه ترسيخاً لاستقلالية الهيئة.
أمس، أعلنت اللجنة النيابية الفرعية المنبثقة عن اللجان النيابية المشتركة إنهاء دراسة اقتراحَي رفع السرية المصرفية والإثراء غير المشروع، على أن تجرى قراءة أخيرة لهما بصيغتهما النهائية، في جلسة تعقدها اللجنة الإثنين المقبل.
بالنسبة إلى رفع السرية المصرفية، فقد أعلن رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان أنه تم توحيد الاقتراحات المقدمة من كل من: التيار الوطني الحر، حزب الكتائب، النائبة بولا يعقوبيان والنائب جميل السيد، مع بعض التعديلات. وتمحورت الصيغة النهائية حول «رفع السرية المصرفية تلقائياً بمجرد تولّي منصب عام».
بحسب كنعان، تشمل الصيغة كل من يتعاطى في الشأن العام والمال العام، إن كان عاملاً معيناً أو منتخباً أو متعاقداً. خلفية القانون هي محاربة جرائم الفساد. ولذلك، لم يجد إلغاء السرية المصرفية نهائياً طريقه إلى الإقرار، بالرغم من أن عدداً من النواب، إضافة إلى نقابة المحامين يؤيدون ذلك. الأغلبية لا تزال تتمسّك بالسرية المصرفية، بذريعة أن «الإلغاء بالمطلق لا يفيد ويفتح المجال أمام الاستعمال الخاطئ للقانون، أضف إن التعديلات انطلقت من الاقتراحات المقدمة، وهي جميعها لا تشير إلى الإلغاء بالمطلق».
مع ذلك، تبدو خلاصة اللجنة قاصرة عن الإحاطة بكل مزارب الفساد. التهرب الضريبي هو أحد أوجه هذا الفساد. وهو صار جرماً يعاقب عليه القانون نظرياً، لكن عملياً فإن تنفيذه يبقى متعذراً لأنه يصطدم بالسرية المصرفية التي لا تزال تمنع الإدارة الضريبية المحلية من التدقيق في حسابات المكلّفين بالضريبة. هذه الثغرة هي التي سمحت لأغلب المكلّفين بالضريبة بامتلاك دفترين للحسابات، دفتر يقدم للإدارة الضريبية ويكون غالباً خاسراً، ودفتر يقدم إلى المصارف، متضمناً الأرباح، التي تسمح بالحصول على القروض. ولأن الموظفين تقتطع الضرائب من دخلهم مباشرة، تكون الخلاصة أن المتهربين من الضريبة والمستفيدين من صمود السرية المصرفية، هم في الأغلب، الأغنياء فقط.
المفاجئ أن قانون السرية المصرفية سيشهد اليوم حلقة جديدة من النقاش. هذه المرة ستكون الحكومة محوره. فالبند الأول من جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء يشير إلى مشروع قانون أعدّته وزيرة العدل ماري كلود نجم في الشأن نفسه. للوهلة الأولى، يبدو الأمر مستغرباً. فالوزارة ممثلة في اللجنة النيابية الفرعية بالقاضية رنا عاكوم، التي قدمت ملاحظاتها واقترحت التعديلات على النصوص المعروضة، كما تؤلف مع النائب السابق غسان مخيبر (من معارضي استمرار السرية المصرفية) مجموعة عمل لصياغة المقترحات والتعديلات التي تقر في اللجنة. لماذا لم تعمد عاكوم إلى طرح التعديلات التي تريدها الوزارة بدلاً من إعادة الأمور إلى النقطة الصفر من خلال تقديم مشروع قانون جديد؟ البعض اعتبر أن هذه الخطوة شكلية، تسعى من خلالها الحكومة إلى إبراز مساهمتها في إقرار القانون لا أكثر، وخاصة أن المشروع الذي يُبحث اليوم لا يختلف جوهرياً عن النص الذي أقر في اللجنة.
ترفض مصادر معنية بمشروع القانون ما يشاع عن عدم وجود فارق. تقول إن المشروع الذي يُعرض اليوم أمام الحكومة هو «أبعد مدى» من الاقتراح الذي ناقشته اللجنة. وأكثر من ذلك يقول المصدر إنه يصل، عملياً، إلى حد إلغاء السرية المصرفية. إذ إن رفع السرية المصرفية يشمل «كل من يتولّى مسؤولية في المصارف والصناديق والمجالس على أنواعها والجمعيات السياسية والمحطات التلفزيونية والإذاعية». كما يشمل «كل من تعاقد ويتعاقد مع الدولة لتنفيذ التعهدات العامة أو أي نوع من العقود، وعن أزواجهم وأولادهم وأقاربهم حتى الدرجة الرابعة».
ويوضح المشروع أن رفع السرية يشمل لبنان والخارج، كما يسري على كل من تولّى سابقاً مسؤولية عامة في الدولة منذ عام 1990 ولحينه.
وزيرة العدل تضع أسس إلغاء السريّة المصرفيّة
الأهم في المشروع، الذي لا يلغي السريّة المصرفيّة بشكل كامل، أنه يتخطى مسألة مكافحة الفساد، ليطاول تعديل قانون ضريبة الدخل، وتحديداً المادة 103 منه التي شكّلت تاريخياً العقبة الأبرز في وجه الإدارة الضريبية لتحديد أسس الضريبة التي تتوجب على المكلّفين بالضريبة، بسبب تكبيلها بالسرية المصرفية. في النص المُقترح من وزيرة العدل، ويتردد أن رئيس الحكومة يؤيده، يُلزم «كل شخص طبيعي أو معنوي في لبنان، بما في ذلك المصارف والمؤسسات المالية العاملة في لبنان وفروعها ومكاتبها التمثيلية في الخارج، بإطلاع موظفي المالية المختصين، لدى الطلب، على جميع ما لديه من سجلات ومستندات ومعلومات تساعد على تحديد أسس الضريبة التي قد تتوجب عليه أو على غيره من المكلفين... على أن يلتزم موظفو المالية بالسرية المهنية في ما يتعلق بالمعلومات التي حصلوا عليها».
إذا أُقر المشروع المعجّل اليوم، يفترض أن لا يتأخر تحويله إلى مجلس النواب. عندها يُتوقع أن يختصر الرئيس نبيه بري الطريق فلا يوكله إلى لجنة الإدارة والعدل كما جرت العادة، بل مباشرة إلى اللجان المشتركة، بما يسمح بدمجه مع الاقتراحات التي درستها اللجنة الفرعية. فهل تكون هذه الخطوة بداية نهاية السرية المصرفية، أم أن لوبي المصارف وكبار المتموّلين والمحتكرين والمتهرّبين من الضريبة سينجح في حماية مصالحه؟