«صرّخ عليهم بالشتي، يا ديب
بلكي بيرجعوا»
(طلال حيدر)


جاءت زميلة مرّة تسألنا النصح في من ينبغي أن تدعو إلى أسبوع ثقافي في بلدتها البقاعيّة، من تنظيم جمعيّة ناشئة تضم عدداً من المتطوعين الشباب المتحمّسين للعمل في المجال العام. يومذاك خطرت لنا فكرة جهنميّة، وقلنا لها بلا تردّد: لمَ لا تتواصلين مع الشاعر الكبير طلال حيدر؟ إنّه ضيف الشرف النموذجي لمثل هذه المناسبة، وحضوره أبلغ تجسيد لرسالتكم، وقوامها اعادة غرس الثقافة في البيئة الريفيّة البعيدة عن المركز. خذي، هذا رقمه. قدّمي نفسك كصحافية من «الأخبار»، يفترض أنّه يقدّرنا، وحدّثيه عن المشروع. إدعيه بكل بساطة إلى ربوعكم، فربّما استهوته الدعوة وتحمّس لها. إن شاعراً بحجم طلال حيدر، هو ابن المنطقة، ومن أيقوناتها الحيّة، قد يهمّه أن يتخلّى عن الأضواء والمناسبات المكرّسة، ليلتقي الناس العاديين، ناسه… ليجلس في أمسية بعلبكيّة تغمرها سكينة الصيف، وسط حلقة من الشبان والشابات المولعين بالأدب والشعر، المسكونين بنهم اعادة اكتشاف العالم بعيني شاعر من أهلهم. هذا تقليد معروف في البلاد الراقية. وهذا الاطار الحقيقي، الأصيل، هو منهل المبدعين الذين يسكنون وجدان الجماعة. هكذا تخيلناه ضيفاً على القرية الجميلة التي لا تبعد كثيراً عن بيته، والمتعطشة للانفتاح والثقافة والتنوير، يلقي القصائد، ويتحدث عن تجربته. ينفح في المكان روح التمرّد، ويطلق شياطين الشعر…
في الحقيقة، ما زلنا بعد سنوات على الحادثة، كلّما التقينا زميلتنا المسكينة، نشعر بالحرج منها، لكوننا رمينا بها في فم الذئب، وتسببنا لها بإهانة شخصية. ولا شك في أنّها لم تنس تلك الصفعة. كان من حق الشاعر أن يعتذر طبعاً، بشكل من الأشكال، متذرعاً بانشغالات مختلفة، أو مصارحاً محدثته بأنه لا يرغب في ذلك، وأن هذه المشاركات ليست حاليّاً على قائمة أولويّاته… على أن يبدي شيئاً من الامتنان، وإنْ من باب المجاملة، لهذه الصحافية التي اختارته عرّاباً لاحتفالية محليّة في بلاد بعلبك. بدلاً من ذلك انفجر غاضباً على الهاتف: من أنت لتتجرئي على الاتصال بي هكذا؟ من أعطاكِ رقمي؟ كيف سمحت لنفسك؟ أنت لا تعرفين المقامات؟ أتطلبين من شاعر مثلي أن يذهب الى قرية صغيرة، أنا من أقف فوق المنابر المرموقة، وتصفق لي الجماهير الغفيرة؟ من صدمتها ألغت الزميلة وصحبها الإحتفاليّة من أساسها!
أول من أمس، ونحن نتفرّج بذهول على الرجل البائس بالبابيون الرمادي، يموّه بإلقائه ركاكة روحه، تذكرنا تلك الحادثة. هل هذا ما تبقّى من طلال حيدر؟ «كشتبنجي» متقاعد خذلته مهارته، فقدَ لغته المتوهّجة، واستبدل بها لغة مقعّرة لا تنطلي على أحد. ولا حتّى على الست بهيّة المنتصبة كتمثال من الشمع إلى يساره. فكيف بالأحرى السفير السعودي الذي يفترّ ثغره عن ابتسامة رضا بالكاد نراها، خلفه صوب اليمين؟ السفير يعرف، لقد نفحه الأعطية، فكان أن كال لـ«مملكة الخير» في عيدها، بقيمة المكْرُمة، كلاماً انحطاطيّاً على قدر المناسبة… فيما الرئيس السنيورة الغارق بين العمامات، متصدّراً «المهرجان الشعبي» أمام درج المتحف الوطني، يتشبّث بالعمود بكل قوته، مردّداً في سرّه: «حتى أنا بوسعي أن ألقي قصيدة أكثر بلاغة من تخريفات هذا الباشق الهرم»! ويحك! كيف تجمّعت هذه القوافي كذباب عملاق على روث الدواب؟ «أنحاء الديار»... «يحدوهُ انتصار»... «تصحيح المسار»... «آثار الدمار»... «عذاب النار»... لم يكن ينقص هذا الرائيّة العصماء كي تبلغ تمامها إلا قافية «هلو هلو أبو منشارْ»! يا لمرارة المشهد. إن الشاعر الذي كان يوماً سيّد البلاغة، وصاحب السليقة الشعرية الفريدة، وريث ميشال طراد والماضي بعيداً في ترسيخ «فصاحة» القصيدة العامية… الشاعر الذي غنّت فيروز بعض أجمل قصائده، هذا الشاعر أمامنا في حالة مزرية، وقد غادره الوحي، ولم يعد يشكّل في هذا الكرنفال السلماني، إلا انعكاساً شاحباً لنفسه… أهذه هي «المقامات» التي لم تحترمها زميلتنا في ما مضى يا أستاذ طلال؟ أهذه هي المنابر المرموقة، والجماهير التي يسكرك تصفيقها؟ لقد تألقت حقّاً في هذه المهزلة الرخيصة التي دنّست واجهة متحفنا الوطني في بيروت.
بعد البحتري في مديح المتوكّل، والأخطل في مديح عبدالملك بن مروان، والمتنبّي في مديح سيف الدولة، والجواهري في مديح ستالين أو نوري السعيد، ونزار قبّاني أو عبد الرحمن الأبنودي في مديح عبد الناصر… سيدخل طلال حيدر التاريخ بنص بليد في مديح محمد بن سلمان! شيء ركيك، حائر بين النثر المسجّع، وشعر التفعيلة، واللغة الخشبية التي يجترّها الخطاب السياسي: «محمدُ بنُ سلمانٍ يقول للآتي تعال الآن، إنّي لا أحبُّ الانتظارْ/ إن من يبغي رضا الله، بحدّ السيف تصحيحُ المسارْ». كان المديح من الأغراض الرئيسية في الشعر القديم، يدخل في منظومة الحياة القبليّة، وبعدها صار جزءاً من «مهنة الشعراء» لكسب عيشهم، كما يذكّر أدونيس في معرض دفاعه عن صديقه المتنبّي. لكنّ هذا المديح، في الزمن العربي الرديء، خيانة وطنية وانحياز أعمى للسفاحين… من أجل حفنة من الدولارات. الشعراء الكبار كتبوا الروائع في مدائحهم، فيما طلال حيدر قال «شعراً» يشهد بالزور لأحد أبشع الأنظمة الانحطاطيّة في تاريخنا العربي الحديث، ولطاغية جمع في فترة وجيزة كل آفات الظلاميّة، وجرائم الحرب، وتصنيع التكفير، والخيانة القوميّة، وسجن المعارضين والمعارضات، والتنكيل بالاعلاميين وقتلهم ولو كانوا من حاشية النظام… ارتكب الشاعر فعلته، ثم اعتذر عن سقطته بطريقة لاواعية، وبالركاكة المقزّزة إيّاها: «فاعذرونا إذا كان البعضُ منا يهوي صوب الانحدارْ». وأيُّ انحدار!
إن شاعر بلاط آخر زمن معروف بعبثه وخفته، وضعفه أمام أصحاب الجاه ومانحي المكرمات. هذا ليس بجديد، كثيرون اعتبروا ذلك جزءاً من شخصيته اللاهية، معتبرين أن عبقريته الشعرية تعذر كل شيء. لكن ما فعله مساء الأحد، أظهره للملأ عارياً، بلا موهبة وبلا أخلاق! في هذه اللحظة المأزومة من صراع وجودي ضد الانحطاط التكفيري وسماسرة تصفية القضية الفلسطينيّة، ما ارتكبه هو انتحار موصوف. لفهم ما حصل، يكفي رصد ردود الفعل الخائبة والمذهولة والغاضبة في لبنان والعالم العربي، منذ انتشار الفيديو. هل فكّر طلال حيدر في ما يفعله، أم تصرّف بخفّته المعهودة؟ هل تراءى له طيف فؤاد الشمالي أو كمال خير بك؟ لقد وقف على باب المتحف، أخرج مسدساً صدئاً من جيب سترته، وجهه إلى صدغه وضغط على الزناد.