خرج الرئيس سعد الحريري بتصريح مفاجئ أمس، معلناً فيه عمله «جاهداً» على «بدء مفاوضات بشأن حدودنا البحرية»! غير أن الأغرب هو إشارة الحريري إلى أنه «يتعين علينا اتخاذ قرارات بشأنها في مجلس الوزراء»، وكأن توقّف «مبادرة» نائب وزير الخارجية الأميركي دايفيد ساترفيلد الأخيرة سببه لبنان، وليس نفاق المفاوض الأميركي ومراوغة العدوّ الإسرائيلي.قبل ست سنوات، وضع لبنان شروطه للقبول بتفاوض غير مباشر مع العدو الإسرائيلي لترسيم الحدود البرية والبحرية مع فلسطين المحتلّة، برعاية الأمم المتحدة. وشروط لبنان ليست نابعة من خطّة تفاوضية فحسب، بل من قرار واضح عند حزب الله والرئيس نبيه برّي بعدم التفريط بأي شبر من الحدود البرية في البقع المسماة أممياً «متنازعاً عليها»، وعدم التفريط بـ«كوب ماء»، كما يقول برّي، من المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة في البحر. ورفض لبنان وقتها خطة المبعوث الأميركي فريدريك هوف. أما على المستوى السياسي، ومنذ ذلك الحين، حرص الجانب اللبناني على عدم منح العدوّ أي ورقة للقول إن لبنان يفاوض إسرائيل، ومنعه من تحميل المفاوضات أي بعد سياسي. وهذه الشروط بسيطة، أوّلها ربط التفاوض على الحدود البحرية بالحدود البرية، وحصول التفاوض تحت رعاية الأمم المتحدة بالمعنى التقني والسياسي، قطعاً للطريق على أي تأويل سياسي بوجود راعٍ آخر كالأميركيين. وهناك توقف البحث في التفاوض، بسبب عدم استعداد العدو الإسرائيلي للالتزام بهذه الشروط وإصرار الأميركيين على انتزاع جزء من المساحة البحرية لصالح العدو الإسرائيلي. ثم لاحقاً، رفض لبنان أيضاً خطة المفاوض الجديد آموس هوكشتاين، الذي اقترح حلاً ببناء صندوق مشترك، بين لبنان وإسرائيل عبر شركات، واقتسام العائدات من المنطقة «المتنازع عليها» في البحر!
قبل أقلّ من عامين، حمل الحريري إلى بيروت عرضاً ووعوداً من مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، صهره جاريد كوشنير، تربط بين تسهيل التفاوض على الحدود البحرية ومساعدة لبنان لتخطّي أزماته المالية وأزمة النازحين السوريين والفلسطينيين. وبدا وقتها أن الوزير جبران باسيل ليس بعيداً عن اقتناع الحريري بضرورة بدء التفاوض وتسهيل مهمة كوشنير، ولو كان التفاوض في البر مفصولاً عن البحر. إلّا أن طموح الحريري وكوشنير قطعه موقفا بري وحزب الله، ووصلت النصيحة إلى رئيس الحكومة برمي العرض وراء ظهره، لأن ما يحكى عن مساعدات لا يعدو كونه وهماً، والعرض جزء مقنّع من «صفقة القرن». ولم يكذّب كوشنير خبراً، حين كشف قبل نحو شهر، خلال مؤتمر البحرين، عن الرشى المالية التي ينوي الأميركيون التلويح للبنان وفلسطين والأردن بها، مقابل الانخراط في مشروع تصفية فلسطين.
وحين عاد ساترفيلد إلى بيروت قبل أربعة أشهر، وقرّر الرؤساء الثلاثة، ميشال عون وبري والحريري، بالتنسيق الكامل مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، إعطاء مبادرته فرصة، كان الموفد الأميركي يحمل أجواءً عن قبول العدو بالشروط اللبنانية، على أن يكون رئيس المجلس النيابي هو المفاوض. وطوال أشهر، تنقّل ساترفيلد بين بيروت وفلسطين المحتلة لإيجاد الأرضية المناسبة لبدء التفاوض. ومجدّداً، حدّد بري الثوابت اللبنانية: تلازم البرّ والبحر، تفاوض غير مباشر في الناقورة برعاية الأمم المتحدة وحضور الأميركيين، ورفض السقف الزمني الذي حدّده العدو الإسرائيلي بستة أشهر.
وهنا يبرز السؤال حول ماهية تصريح الحريري وتوقيته. فمع كل المسار السابق، وعدم الوصول إلى نتيجة جراء التعنّت والخداع الإسرائيليين، ولعبة شراء الوقت الأميركية، هل بات في حوزة الحريري تأكيد على التزام العدو عبر الأميركيين بالشروط اللبنانية حتى أدلى بتصريحه؟ وإذا كان الاتفاق بين الرؤساء الثلاثة بتكليف بري بالتفاوض لم يوصل إلى نتيجة، فما هو دافع الحريري لنقل الأمر إلى مجلس الوزراء (مجلس الوزراء ذاته المعطّل حالياً، والذي قد ينقسم لأسباب أقل أهمية بكثير من التفاوض مع العدو الإسرائيلي)؟ وما هي الطروحات التي سيقدّمها رئيس الحكومة حتى يتمّ على أساسها تعيين الموقف؟
تصريح الحريري، الذي ذهب البعض إلى ربطه بضغوطٍ يمارسها كوشنير عليه بحجّة تحميل لبنان مسؤولية فشل المفاوضات (راجع «الأخبار» 29 حزيران 2019 بعنوان «كوشنير عرض على الحريري عودة النازحين وتوطين الفلسطينيين»)، بدأ بالتفاعل أمس في الدوائر السياسية العليا في البلاد.
الحريري نقل الملف إلى مجلس الوزراء المعطّل!


وبحسب المعلومات، فإن الحريري وضع عون ووزير الخارجية جبران باسيل وبري وحزب الله في صورة الاتصالات الأخيرة مع كوشنير. وعلمت «الأخبار» أن بري لا يزال عند الشروط التي حدّدها إجماع الرؤساء، والتي على أساسها فشل الاتفاق على بدء المفاوضات، وأن أياً من مواقف العدو لم تتغير. وعلى هذا الأساس، يتّخذ بري وحزب الله موقفهما المبدئي بالتمسك بالشروط، خصوصاً بعد الوصول إلى الاقتناع بأن الأميركيين لا يريدون في هذه المرحلة من مبدأ التفاوض إلا تحييد الساحة اللبنانية عن تطورات المنطقة. أمّا عن موقف عون وباسيل، فلا يبدو أنهما في وارد السير بطرح الحريري. وأكدّت مصادر متابعة لموقفهما أنهما أقرب إلى موقف بري من طرح الحريري، لافتةً إلى «مواقف باسيل خلال زيارته للجنوب أول من أمس حول التمسّك بالحقوق».
من جهتها، أكّدت مصادر غربية مطلّعة لـ«الأخبار» أن مبادرة ساترفيلد صارت في موت سريري، لأن نائب وزير الخارجية الأميركي سينتقل قريباً إلى تولّي سفارة بلاده في أنقرة، وأن البديل، ديفيد شينكر، يحتاج إلى أشهر قبل قدرته على البدء بالتحرك في ملفّ من هذا النوع. إلا أن المصادر أشارت إلى أن «الخلفية التي يتعامل بها الأميركيون مع هذا الملف، عدا عن ملف النفط، هي السعي لإبعاد لبنان عن التوتّر الإقليمي، خوفاً من تحرّك حزب الله في حال وقوع أي تطورات في الصراع الأميركي ــ الإيراني».