منذ أيام، يشن مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس هجوماً مضاداً على المديرية العامة قوى الأمن الداخلي. على مدى أيام، أصدر جرمانوس عدداً من الاستنابات القضائية، يطلب فيها من الاجهزة الأمنية تزويده بجميع المخالفات المسكوت عنها، في مجالَي حفر الآبار الارتوازية والبناء والتعدي على الاملاك العامة. وهذه الاستنابات تصيب بالدرجة الاولى المدير العام لقوى الامن الداخلي، اللواء عماد عثمان، الذي تصدر عنه، منذ سنوات، كما عن عدد من أسلافه في المديرية، لوائح إلى القطعات الإقليمية في الدرك، لصرف النظر عن مخالفات حفر الآبار الارتوازية وتشييد الأبنية بلا تراخيص.خطوة جرمانوس ربما ستؤدي إلى خفض نسبة التعديات على المياه الجوفية، التي تتم بلا أي مراعاة لخطورة استهلاك تلك الثروة، من دون أي حسيب او رقيب، وبصرف النظر عن مبررات عثمان. لكن يصعب التصديق، برأي مصادر قضائية وأمنية، أن خطوة جرمانوس تنمّ عن حس بيئي أو قانوني استيقظ فجأة لدى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. فقد سبق لعدد من وسائل الإعلام، وأولاها «الأخبار»، أن نشرت أكثر من تحقيق عن مخالفات عثمان في هذا المجال، من دون أن تتحرك النيابة العامة العسكرية. لكنّ مقرّبين من جرمانوس يؤكدون أنه تحرّك بعد الكتاب الذي أرسلته وزارة الطاقة قبل أسابيع إلى وزارة الداخلية، وتطلب فيه وقف بدعة تراخيص عثمان. مصادر أمنية وقضائية ترى أن جرمانوس يهدف إلى القول إن «من يرفع لواء مكافحة الفساد في القضاء، أي عثمان وفرع المعلومات، لا يمكنه فعل ذلك فيما هو غارق في الفساد، وملف الآبار الارتوازية خير دليل على ذلك». وتضيف المصادر أن جرمانوس لم يتحرّك سوى للرد على «التسريبات» التي يتهم فرع المعلومات بالوقوف خلفها، والتي تنسب إليه «فساداً ما» أقر به عدد من السماسرة الموقوفين في قضية «الفساد العدلي».
لم يكتف جرمانوس بذلك. فقد أصدر قراراً وأرسله إلى «المعلومات»، يطلب فيه نقل الموقوف إيلي غبش ــ المتهم بالمشاركة في تلفيق تهمة التعامل مع العدو الإسرائيلي للممثل المسرحي زياد عيتاني ــ من سجن المديرية العامة لقوى الامن الداخلي في الأشرفية، إلى سجن رومية. وعزا مفوض الحكومة قراره إلى عدم جواز بقاء الموقوف في عهدة الجهة التي أوقفته وحققت معه. وترد مصادر أمنية وقضائية على هذا القرار مؤكدة غياب أي نص قانوني يمنع بقاء موقوف في «سجن المقر العام»، فضلاً عن أن غبش كان قد تقدم بكتاب الى جرمانوس نفسه خلال شباط الفائت طالباً إبقاءه حيث هو، معللاً طلبه بالخوف من سطوة المقدم سوزان الحاج وخشيته على حياته! هنا أيضاً، تحضر النظرية نفسها: جرمانوس يريد «التنقير» على المعلومات، فيرد مقرّبون منه بالقول إن الفرع الأمني يتدخّل في سير محاكمة غبش والحاج، من خلال تلقين الاول الإفادات التي تضر بشريكته في التهمة!
سجّل أحد القضاة وقائع التحقيق الذي أجرته معه هيئة التفتيش القضائي!


ما سبق جزء يسير مما يشهده القضاء، وسط الحديث عن لوبي سياسي أمني قضائي يسعى لوقف «حملة مكافحة الفساد» عبر القول إن الاعترافات التي انتُزعت من الموقوفين لدى فرع المعلومات تمّت تحت التعذيب، وأن «هجمة» الفرع يجب أن تتوقف. وفي الأيام الماضية، ترددت شائعات عن وجود نية بسحب ملف التحقيق من فرع المعلومات. لكن هذه الشائعات تأكدت أمس في اجتماع المجلس الاعلى للدفاع، حيث شدد وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية سليم جريصاتي على وجوب أن يكون ملف مكافحة الفساد في عهدة المديرية العامة لأمن الدولة. وبالتأكيد، لم يكن جريصاتي يدلي برأيه الشخصي. كان ناطقاً باسم رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، للتلميح بأن تحقيقات الفرع «مسيّسة وتستهدف قضاةً من جهة واحدة».
يرد فريق قوى الأمن الداخلي ــ المدعي العام التمييزي ــ الرئيس سعد الحريري الآخر بتأكيد أن كل نتائج تحقيقات المعلومات التي أدّت إلى الاشتباه في تورط قضاة بالفساد مثبتة بتسجيلات صوتية وجدت على هواتف السماسرة، وأن الموقوفين لم يكونوا قادرين على نفي أي منها، ولم يكن هناك من داعٍ لإهانة أحد منهم فضلاً عن تعذيبه أو ترهيبه. وتضيف مصادر هذا الفريق بالقول إن التحقيقات «أدت حتى الآن إلى الاشتباه في أقل من 10 قضاة، أحدهم محسوب على تيار المستقبل، وبالتالي، لا صحة لتهمة تسييس الحملة».
وفي سياق الحرب الدائرة أيضاً، يتداول عدد من القضاة معلومات تفيد بأن أحد القضاة المشتبه في تورطهم بملفات فساد، عمد إلى تسجيل مجريات التحقيق الذي أُجري معه من قبل هيئة التفتيش القضائي. ويُتداول أن هذا التسجيل أُرسل إلى أحد المحامين المقرّبين من وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل بهدف إظهار أن «التحقيقات فارغة». ويُشكك عدد من القضاة في متانة الاستجوابات التي تُجريها «هيئة التفتيش»، متسائلين عن خبرة القضاة أعضاء الهيئة الذين يتولون التحقيق مع زملائهم المشتبه فيهم، وصولاً إلى التشكيك في تاريخ بعضهم المهنيّ!
وفي إطار الهجمات المرتدة أيضاً، تُشنّ حملة تتعلق بالموقوف جو ع. أحد المدنيين المشتبه في كونهم سماسرة عدليين، والذين جرى توقيفهم. أثيرت مسألة عدم قانونية الاستمرار في توقيفه لنحو شهر كامل لدى فرع المعلومات، فيما القانون لا يجيز التوقيف لأكثر من 48 ساعة قابلة للتمديد مرة واحدة، قبل إحالة الموقوف على القضاء. إلا أن مصادر قضائية ترد بأنّه تبيّن أن المذكور ملاحق بسبع قضايا احتيال وشيكات من دون رصيد، وفي حقه أكثر من مذكرة توقيف غيابية. أما التحقيقات التي أجريت معه بعد توقيفه، فتمت إحالتها على النيابة العامة الاستئنافية ضمن المهلة القانونية.
ما يدور في العدلية لا يبشّر بالخير. دفع ذلك بالنائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، القاضية غادة عون، إلى زيارة قصر بعبدا بعيداً عن الأضواء قبل أيام، لتضع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في صورة ما يجري. وبحسب ما علمت «الأخبار»، فإن رئيس الجمهورية أبلغ القاضية التي كانت لها اليد الطولى في تحريك ملف «مكافحة الفساد القضائي» أن شيئاً لن يوقف حملة تنظيف العدلية. ولأجل ذلك، ينتظر معنيون بالقضية الأيام المقبلة التي ستكشف كف يد قضاة جدد، أو انحسار الحملة، لتعود العدلية إلى سابق عهدها: صورة عن الإدارة والامن والسلطة السياسية.



«امبراطور الدقّاقات»
من الأمثلة التي تُضرب للدلالة على الأزمة التي تضرب الاجهزة الامنية والقضاء وصلتها بالانقسام السياسي بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل، قضية «امبراطور الدقاقات» (أي الحفارات)، وسام خ.
الأخير مشتبه في كونه أحد أبرز حفّاري الآبار الارتوازية الذين يتولون تأمين التراخيص غير القانونية التي يصدرها المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان. وبعد استنابة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس الاجهزة الامنية بوجوب إبلاغه بجداول تتضمن مخالفات الآبار، طلب القاضي نفسه من المديرية العامة لأمن الدولة بتوقيف وسام. دهمت دورية من امن الدولة منزله، فقيل لها إنه لدى فرع المعلومات. راجع «امن الدولة» الفرع، فرد ضباط الأخير بأن وسام موجود لديهم بناءً على إشارة المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود!
هنا، يتهم الفريق المناوئ لـ«المعلومات» المديرية العامة للأمن الداخلي باستباق التحقيق مع وسام، نظراً لما يمكن أن يثبته من فساد في قضية الآبار بحق اللواء عثمان. ويرد الفريق الآخر بأن «أمن الدولة تتدخّل في ملف لا صلة لها به، وجرمانوس يحاول الالتفاف على إشارة المدعي العام التمييزي، بصورة مخالفة للقانون». يتداخل في هذا الملف القانون بالأمن والسياسة والصلاحيات. جرمانوس (والفريق الداعم له في التيار الوطني الحر) يصر على أن من حقه أن تمرّ عبره استنابات المدعي العام التمييزي إلى الأجهزة الأمنية. أما القاضي سمير حمود (والفريق الداعم له)، فيرى أن «صلاحياته تشمل كل أفراد الضابطة العدلية، من أرفع مدّع عام في الجمهورية، إلى آخر مأمور أحراج».