لمرتين فقط منذ اتفاق الطائف، أٌفسِح في المجال امام توقّع التئام المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. كلتاهما بُنيتا على موقف سياسي، وبدتا محاولتين فاشلتين لتصفية حساب اكثر منهما ولوجاً جدياً الى محاسبة. لم تكونا سوى تشفّي عهد من سلفه، ورجالات عهد جديد من رجالات عهد منصرم. السلطة نفسها، مذذاك، لا تزال قائمة الى اليوم ــ وإن بتغيير بعض وجوهها ــ هي الاكثر شبهة، إذ تمثّل الاصل والفرع في الارتكاب والمحاسبة.أولى المرتين كانت للبحث عن وسيلة لمنع الرئيس امين الجميّل من العودة الى لبنان، وتخويفه من ملاحقة قضائية بذريعة صفقة طوافات البوما الفرنسية من ايام عهده، ثبت للجنة تحقيق نيابية طوال سنتين (1993 ــ 1995) أن لا ادلة على تورّط الرئيس السابق للجمهورية في عمولة غير قانونية. ثانيتهما مع الوزير السابق للنفط شاهي برصوميان بتهمة بيع رواسب نفطية لوحق بها امام القضاء العادي عام 1999 قبل ان يستعيد مجلس النواب الملف ويضعه لديه برسم المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

اتهام الرئيس أو الوزير يتطلب توافقاً عاماً شبيهاً بالتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية (هيثم الموسوي)

في المرتين هاتين، عُدت ملاحقة مسؤولين سابقين ــ وكلاهما الجميّل وبرصوميان كانا خارج منصبيهما ــ تصفية حساب سياسي. في الاولى جانب منها سوري بغطاء لبناني في عهد الرئيس الياس هراوي الذي كان رأس حربته وآخر متني وقف وراءه الوزير حينذاك ميشال المر عندما عمد الى تكوين الملف حينما كان لا يزال في وزارة الدفاع. في الثانية كان برصوميان السهم المصوَّب الى الهدف الاصل الذي هو الرئيس رفيق الحريري في مطلع عهد الرئيس اميل لحود. بعد اقصائه الحريري عن السرايا، بدأ لحود ملاحقة رجالات عهده بأولهم برصوميان وثانيهم وزير المال فؤاد السنيورة في وقت متزامن، قبل ان يسقط هذا المسعى تماماً. وخلافاً لما كانت عليه دمشق في تشجيعها ملاحقة الجميّل لمنعه من العودة، وقفت على الحياد ما بين لحود والحريري.
كلتا السابقتين وقفتا عند ابواب مجلس النواب وانتهتا تماماً، لكن لسببين متباينين ومتناقضين:
في الملف الاول لم يثبت الاتهام ضد الرئيس السابق في ضوء عمل لجنة تحقيق نيابية انشئت في كانون الاول 1992 وعقدت 17 جلسة ما بين كانون الثاني وتشرين الثاني 1993. في 24 تشرين الثاني 1993 والاول من كانون الاول، التأم البرلمان وناقش تقرير اللجنة، ومن دون تصويتٍ تبنّى توصيتها احالة الملف على النيابة العامة التمييزية، بعد مداخلتين للنائبين جوزف مغيزل ومخايل ضاهر قالا ان الاتهام ــ بحسب المادة 60 من الدستور ــ يوجب تصويت ثلثي النواب كي يحال الملف على المجلس الاعلى للمحاكمة. يقتضي ايضاً بموجب المادة 19 من قانون انشاء المجلس الاعلى (18 آب 1990) اقتران الاتهام بالجرم والادلة والقرائن. كل هذه لم تعثر عليها قشرة التسييس. افاق لحود مجدداً على الملف عام 2000 ـــ بعد سبع سنوات على وجوده في الادراج ـــ عندما تردد ان الجميّل عائد الى بيروت. ثم نام نهائياً. كان ذلك التسييس اول مسمار في نعش المجلس الاعلى، قبل ان يُجرَّب حتى.
الملف الثاني أتى اطفاؤه في مرحلة انقلاب موازين القوى في البلاد رأساً على عقب، بعد اغتيال الحريري عام 2005 ونشوء برلمان جديد بأكثرية مناوئة للمرحلة السابقة. اجتمع المجلس في 16 آب وناقش تقرير لجنة التحقيق النيابية التي التأمت في 14 جلسة بين كانون الثاني ونيسان 2004 وانتهت الى القول إن الافعال المنسوبة الى برصوميان «غير ثابتة الثبوت الكافي، ولا مبرّر قانونياً لاتهامه او ملاحقته». في الحصيلة، قرّر البرلمان اغلاق ملف برصوميان وتبرئته، باقتراع 56 نائباً ضد اتهامه، في مقابل 10 اصوات اتهمته، و27 ورقة بيضاء الى ورقة ملغاة.
مذذاك تأكدت الثلاثية الآتية: استحالة الوصول الى المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء من خلال مجلس النواب اولاً، وجرّاء مقاربة اي ملف من باب سياسي لا قضائي بغرض تصفية حساب ثانياً، وارتباط كل ملف بتوازن القوى السياسية الناظرة فيه ثالثاً.
الا ان جلسة البرلمان عام 2005 افضت الى نتائج اخرى كرّست تلك الثلاثية:
1 - حسم اختصاص الملاحقة بمجلس النواب على انه مرجع الاتهام، وطريق الوصول الى المجلس الاعلى، بعد الاخذ باجتهاد محكمة الجنايات وقرارها في 16 كانون الاول 2002، بعدم صلاحية القضاء العدلي النظر في قضية اعتبرت انها متصلة بمهمات وزير، تندرج في مفهوم الاخلال بالواجبات الوظيفية المنصوص عليها في المادة 70 من الدستور. تالياً محاكمته امام المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. كان الحريري عاد بقوة الى السرايا، وتقلّصت عضلات لحود، وفُتح باب التسويات بينهما.
وضع المحاسبة بين يدي المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء يجعلها مستحيلة


في وقت سابق، في عزّ اطلاق لحود حملته على الفساد وإهدار مال، وكان المقصود ملاحقة رجال عهد سلفه الرئيس الياس هراوي ورئيس معظم حكوماته الحريري، اصدرت محكمة التمييز الجزائية في 24 آذار 1999 قراراً قال بصلاحية القضاء العادي النظر في ملاحقة برصوميان. بموجب هذا القرار سُجن الرجل 11 شهراً بلا محاكمة او قرار ظني ما بين آذار 1999 وشباط 2000 قبل إطلاقه، ووضع مجلس النواب في وقت لاحق عام 2004 يده على ملفه من خلال لجنة التحقيق النيابية.
2 - تكريس الاتهام في مجلس النواب بنصاب الثلثين، تمهيداً للمحاكمة امام المجلس الاعلى تبعاً لآلية قانون انشائه. يُوقع خُمس النواب على الاقل (36 نائباً) عريضة توجيه الاتهام، ويصير الى التصويت عليها بالنصاب الموصوف، المماثل لنصاب انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في المادة 49. شأن استحالة انتخاب الرئيس خارج توافق عام يضمن حضور 86 نائباً، كذلك حال اتهام الرئيس او الوزير يتطلب توافقاً عاماً بات منذ عام 2005 مستحيلاً لسببين على الاقل: اولهما تفادي تكريس سابقة استسهال الاتهام، وثانيهما وجود كتل نيابية مذهبية اضحى اي موقف تتخذه احداهما حيال الاخرى مرتبطاً مباشرة بالتسعير المذهبي. اضف ان اياً من الكتلتين المذهبيتين المتماسكتين، السنّية والشيعية ــ الحال التي لا نظير لها لدى الكتل المسيحية المنقسمة على نفسها ــ يتعذّر انتزاع موافقتها على احد مرتكب فيها.
ما شهدته في الايام الاخيرة المواقف المتناحرة من الرئيس فؤاد السنيورة بعدما سارعت مرجعيتا الطائفة، السرايا ودار الافتاء، الى وضع طائفته امامه للدفاع عنه على ان استهدافه هو استهداف لها هي، يصحّ على كل طائفة اخرى وفي كل وقت.
يفصح الواقع ايضاً ــ وإن بدا الرئيس السابق للحكومة النموذج ــ عن ان من السهولة بمكان العثور في طائفته، كما في كل طائفة، على سنيورة مماثل واكثر.