لا الصراعات الدولية المتفاقمة هذه الأيام، ولا التحوّلات الإقليمية الكبرى ومآلات صفقة القرن وانعكاسات نهاية الحرب السورية على لبنان، ولا مفاعيل حروب الغاز وخطوط طريق الحرير الصينية، دفعت القوى السياسية اللبنانية إلى الإسراع في تشكيل الحكومة المجمّدة منذ تسعة أشهر. ومن الإقليم، إلى الداخل اللبناني، المثقل بالأزمات الاقتصادية والمعيشية والفساد الناخر في جسد ما بقي من الدولة، والمجاري التي تنفجر مع كلّ عاصفة، والطرقات التي تختنق من زحمة العابرين إلى المستقبل المجهول، والمدن والبلدات والطرقات المعتمة، والغلاء المعيشي والفقر والبطالة، وفوقها أزمات النازحين وحروب العشائر... كلّها، تحتمل تسعة أشهر من الفراغ، والمراوحة واهتزاز الثقة بالبلاد والدولة والمستقبل، لكنها لا تحرّك ساكناً في أولئك الباحثين عن حصص واهية يستقوون بها على غيرهم في سلطة واهية.وحده تصنيف «موديز»، وحدها أموال مؤتمر «سيدر» المعقودة على موعد مع الهدر، دفعت المؤتمنين على البلاد إلى إنجاز متأخر بتشكيل حكومة، كان يمكن أن تنجز بعد أسبوع من انتهاء الانتخابات النيابية، بعدما فضحت مجريات الأيام الماضية الذرائع الواهية لتأخير التشكيل.
فما حصل خلال الأسبوع الأخير، من تراجعات بالجملة عن مواقف متصلّبة، كان نتيجة وصول المعرقلين، وهم كثر، إلى الطريق المسدود، بالعجز عن الحصول على كامل ما خططوا للحصول عليه من حصص وحقائب ومقاعد وزارية، استناداً إلى موازين قوى، توهّموا أن بإمكانهم فرضها على البلاد، وعبأوا شوارعهم عليها على مدى تسعة أشهر من المماطلة.
من يصدّق أن الحكومة تأخرت أوّلاً أربعة أشهر بسبب الخلاف على حصة حزب القوات اللبنانية الذي كان يطالب بحقيبة العدل وخمسة وزراء؟ ثم على حصّة الحزب التقدمي الاشتراكي ومطالبته باحتكار المقاعد الدرزية؟ ثم من يصدّق أن الحكومة لم تتشكّل في المدّة الباقية بسبب تعنّت الرئيس سعد الحريري ورفضه تمثيل اللقاء التشاوري، محتكراً تمثيل طائفة بأكلمها أثبتت الانتخابات النيابية أنه أحد زعمائها وليس أوحدهم؟ ثم بسبب رفض الوزير جبران باسيل تمثيل اللقاء التشاوري من حصّته؟
لا خاسرين في تشكيل الحكومة، إلّا أولئك الذين رفعوا سقوفهم في التفاوض


للوهلة الأولى، والأخيرة، يخيّل إلى اللبنانيين، وحتى إلى سياسيين وصحافيين ومتابعين، أن العرقلة الحكومية خاضعة لتوازنات دولية وإقليمية، وأن مطبخاً عالمياً من القوى الكبرى يعرقل تشكيل الحكومة، وكلمة سرّ جمدت تشكيل السلطة التنفيذية كل هذا الوقت. لكن ما إن تنكشف تفاصيل المفاوضات، والحلول «البسيطة» للعقد التي صُوِّرَت مستحيلة، حتى يتّضح للبنانيين، أن كل هذا «الهراء» كان صراعاً على نفوذ في التشكيل تأسيساً لصراعات مقبلة في داخل الحكومة نفسها.
لا خاسرين في تشكيل الحكومة، إلّا أولئك الذين رفعوا سقوفهم في التفاوض، وهم ذاتهم الذين سارعوا مساء أمس إلى تجيير إنجاز التشكيل إلى أدوارهم. الحريري، الذي رفض تمثيل اللقاء التشاوري أوّلاً، عاد وقبل بِه، متراجعاً عن محاولاته في تجاهل نتائج الانتخابات النيابية، طمعاً بالعودة إلى رئاسة الحكومة. حزب القوات اللبنانية ليس أفضل حالاً، وهو الذي حاول فرض الأمر الواقع لأشهر، ثم تنازل عن حقيبة العدل وارتضى بأربعة وزراء، وعاد واستبدل بحقيبة الثقافة حقيبةَ دولة (شؤون التنمية الإدارية)، ثم حاول أمس «تربيح» اللبنانيين الجميل، بادعائه التنازل، مع أن الحقيبة المذكورة خصصت لها أموال أكثر من وزارة الثقافة في مؤتمر «سيدر». أما النائب السابق وليد جنبلاط، الذي تنازل عن احتكار المقاعد الدرزية، فحاول أيضاً تظهير دوره كصاحب فضلٍ على اللبنانيين بهذا التنازل، متناسياً أنه قبل بمشاركة الحزب الديموقراطي اللبناني، وهو حقّه، بمقايضة على تعيينات أخرى في الإدارات، ولا سيّما تسميته لرئيس أركان الجيش اللبناني. أما التيار الوطني الحرّ، الذي حاول قضم حصص المسيحيين الآخرين، ولا سيّما تيار المردة، واستمرّ على رفضه تمثيل اللقاء التشاوري، حاول أمس أيضاً التسويق بأن له الفضل، كل الفضل، في عمليّة التشكيل، وأن النتيجة الحكومية هي ما فكّر فيه الرئيس ميشال عون والوزير جبران باسيل.