تستعر المواجهة بين لبنان و«المجتمع الدولي» في ملف النازحين السوريين، بعدما انطلقت معركة توطين هؤلاء في البلدان المضيفة، أو إعادة توطينهم في بلدٍ ثالث (راجع «الأخبار»، الخميس 13 كانون الأول 2018)، كورقة ضغطٍ يعتقد «الغرب» أنّه يرفعها في وجه الدولة السورية. تتصرّف الولايات المتحدة الأميركية، وحلفاؤها في «الأمم المتحدة»، كما لو أنّ البحث في مصير النازحين وعودتهم إلى بلدهم، بطريقة طوعية أو آمنة، أصبحت خلفهم ولم يعد هناك داعٍ لنقاش الأمر. كأن الصفحة طُويت، ليكون البديل العمل على إيجاد أفضل السُبل لدمج النازحين في المجتمعات المضيفة. البلدان ــــ «الهدف» ــــ التي يتم التصويب عليها، لفرض التوطين، هي: لبنان والأردن وتركيا، عبر إمساكها من الذراع التي توجعها: العامل الاقتصادي وتقديم المساعدات لأبناء المجتمعات المضيفة والنازحين على حدّ سواء. تماماً كما يحاول الصندوق الائتماني للاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، والمنظمات الدولية وتلك غير الحكومية، فرض برامج قائمة على القيام بتحويلات نقدية مباشرة للنازحين، حتى لا يعودوا إلى بلدهم، بدل دعمهم بالبرامج نفسها في مدنهم وقراهم في سوريا.

لا يتوقف العمل، وفق المخطط الدولي لشرعنة هذا التوطين، على المحافل الدولية فقط. فقد شغّلت الولايات المتحدة الأميركية أدواتها من منظمات بحثية من أجل الترويج لهذه الخطة، و«حَقْن» المجتمعات المضيفة بها، كما لو أنّها «الخلاص» المُنتظر. هكذا، وتحت عنوان «حلول مُربحة للطرفين: للنازحين السوريين وللبلدان المضيفة»، نشرت المنظمة البحثية الأميركية «RAND corporation» تقريراً تزعم فيه أنّها أجرت 6 دراسات استقصائية مع سوريين وشركات محلية، إضافة إلى 36 مقابلة مع «مجموعات تركيز» تضمّ سوريين ومواطنين من الدول المضيفة، وذلك «من أجل تحديد السياسات التي قد تُساعد في توفير الفرص الاقتصادية للنازحين وللعمال في الدول المضيفة».
هذا التقرير لم يصدر عن منظمة «غير حكومية» تعمل برامج عمل إنسانية، بل عن «RAND corporation» التي تأسست عام 1948 بهدف تقديم المشورة للجيش الأميركي، وبقيت طوال سنوات لا تعمل إلا لمصلحة وزارة الدفاع الأميركية. وإلى اليوم، لا تزال كلّ دراساتها تصبّ في إطار حماية الأمن القومي الأميركي (وهو ما تعلنه). تلقّت المنظمة، العام الماضي، المبالغ الآتية: 48.9 مليون دولار من القوات الجوية الأميركية، 43.8 مليون دولار من الجيش الأميركي، 66.1 مليون دولار من قسم الخدمات الصحية والإنسانية والوكالات الأميركية ذات الصلة، 69.7 مليون دولار من وزارة الدفاع وغيرها من مؤسسات الأمن القومي، وذلك على شكل إيرادات، إضافةً إلى مصادر تمويل أخرى من الجامعات والقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية، إنّما بمساهمات «خجولة» مقارنةً بالأرقام المذكورة. رغم ذلك، تُعرّف المنظمة عن نفسها بأنّها «حيادية ومستقلة».
التقرير المذكور نُشر على الموقع الإلكتروني لـ«RAND corporation» باللغتين العربية والإنكليزية، مُرفقاً بعددٍ من الرسوم البيانية. في البداية، يتم تحديد أنّ 60% من سكان سوريا، البالغ عددهم 23 مليون نسمة، هم من النازحين. وبتفصيل أكثر، يتحدّث عن 6.5 ملايين نازح على الأراضي السورية، أما البقية فيتوزعون بين بلدان الشرق الأوسط (5.6 ملايين) والبلدان الأوروبية (مليون)، فيما يتوزّع 0.1 مليون في بلدان أخرى. النسبة الأكبر من النازحين المسجلين في منطقة الشرق الأوسط، بحسب التقرير، موجودة في تركيا (3.6 ملايين نازح) ولبنان (مليون نازح) والأردن (0.6 مليون نازح).

تضع «RAND corporation» دراسات تهدف إلى تعزيز الأمن القومي الأميركي


التوجيه في التقرير يصبّ حول فكرة واحدة، هي: «النازحون في تركيا والأردن ولبنان يحتاجون إلى أكثر من المساعدات الإنسانية الجارية، بل إلى التوظيف»، ويضيف إنّ بإمكان النازحين المساهمة إيجاباً في الاقتصادات المحلية لهذه الدول «إذا تم تدريبهم على وظائف ذات مهارات متوسطة، وكانوا قادرين على الانتقال إلى مناطق مع شركات صناعية تحتاج إلى عمال مدربين». حاولت الدراسة (التقرير) التركيز على الشقّ الإيجابي من وجود النازحين في هذه البلدان، والعلاقة بينهم وبين المجتمعات المضيفة، في محاولةٍ لتقديم صورة وردية لا تتطابق مع الواقع الموجود. من الأمور التي ذُكرت:
- السوريون يعملون بجهودهم
- يستفيد الاقتصاد في الدول المضيفة من القوى العاملة السورية
- البلدان المضيفة توفّر منفعة عامة للعالم من خلال استضافة النازحين
- لا يشهد أي من البلدان الثلاثة اضطرابات اجتماعية كبيرة بسبب وصول الأعداد الكبيرة من السوريين النازحين
- الطلب على اليد العاملة السورية من قبل أصحاب العمل
- نسبة الذين قالوا إنهم يتعرضون لتمييز هي 24% في تركيا، 14% في الأردن، 22% في لبنان
- نسبة الاحترام في مكان العمل: 61% في تركيا، 74% في الأردن، 71% في لبنان
في المقابل، لم تستطع الدراسة تخطّي مسألة وجود عقبات أمام عمالة النازحين السوريين في البلدان الثلاثة، إذ إن هناك 80% من النازحين في الأردن و81% في لبنان، قالوا إنّهم يخافون من الوقوع في مشاكل مع الدولة، مقابل 39% في تركيا، كما تبين أنّ 86% من النازحين في لبنان يعجزون عن دفع الرسوم المستوجبة للحصول على رخصة عمل وإقامة.
دُرِسَت العقبات التي تعترض إيجاد النازح السوري عملاً، بحسب التقرير، فتبين أنّ 48% منهم في تركيا يُعانون من الأجور المنخفضة، كما أن 38% منهم يُعانون عدم تعلّم اللغة التركية. أما في الأردن، فـ 56% منهم يصطدمون بعدم وجود وظائف كافية، مقابل 48% في لبنان للسبب نفسه. أما صعوبة الحصول على رخصة عمل، فتواجه 32% في الأردن و34% في لبنان، مع وجود 42% في لبنان لديهم صعوبة في الحصول على إقامة قانونية.
تخلص الدراسة إلى وضع توصيات لكلّ بلد من البلدان الثلاثة. في ما خصّ لبنان، «المطلوب» منه هو:
«- تقديم دورات تدريبية مهنية موجزة حول المهارات المطلوبة للسوريين واللبنانيين على حدّ سواء
- الحدّ من القيود المفروضة على القطاعات التي يُمكن للسوريين العمل فيها
- تسهيل الحصول على أذونات العمل
- زيادة قدرة الحوكمة، بما في ذلك البلدية منها، من أجل تسهيل الاستثمار الأجنبي
- تحسين المواءمة بين الموظفين وأصحاب العمل».
في الإطار نفسه، وجّه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، أول من أمس، كتاباً إلى رئيسة الدورة الـ 73 للجمعية العمومية للأمم المتحدة ماريا فرناندا اسبينوزا، والأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريس، والمفوض السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي، على خلفية التصويت على «الإعلان العالمي اللاجئين» الذي اعتُمِد في منتدى مراكش مطلع الشهر الجاري. أوضح باسيل أنّ لبنان لا يعتبر نفسه مُلزماً قانوناً بالإعلان، إذ «تبقى سيادة الدول فوق كل اعتبار. فلا يُستحسن استعماله أداة لفرض موجبات على الدول من شأنها أن تُنشئ حقوقاً هي بمثابة توطين مقنع». أعاد باسيل تأكيد موقف لبنان «الرافض للتوطين أو دمج اللاجئين أو النازحين على أرضه... لا يمكن لبنان التزام موجب تأمين العمل أو تخصيص أي مورد من موارد الدولة والشعب للاجئين على أرضه». الحلّ الوحيد الذي يراه لبنان مُناسباً هو: «العودة الآمنة والكريمة الى البلد الأصل».