لا خلاف على أن حركة أمل هي التي رفضت أن تستقر الباخرة التركية الثالثة في المكان الذي حددته شركة كهرباء لبنان، بوصفه أفضل مكان يمكن من خلاله الاستفادة من كامل طاقة الباخرة المقدَّرة بـ235 ميغاواط (القرار 6262 الصادر في 21/6/2018). علّلت المؤسسة قرارها بإرساء الباخرة في الزهراني حينها بــ«وضع العديد من محطات التحويل الرئيسية الجديدة 220 ك. ف. قيد الخدمة (صيدا، الضاحية، الأشرفية، بعلبك)، ما يتطلب وضع قدرات إنتاجية إضافية على شبكة الـــ220 ك. ف. لتغذية هذه المحطات».كان يفترض أن تسير الباخرة بعد ذلك إلى حيث تقرر. لكن سرعان ما تبين أن الاعتراضات عليها كبيرة، ولأسباب متنوعة أبرزها:
اعتراض أهالي الغازية وبلديتها على الباخرة التي تزيد من نسب التلوث في المنطقة، ومطالبتهم المقاول بتوقيف أعمال التحضير لوصول الباخرة (رسالة صادرة في 22 حزيران، أي بعد يوم واحد من قرار كهرباء لبنان). وقد اقترنت هذه الخطوة بزيارة وفد من بلديات الجنوب للرئيس نبيه بري، لإطلاعه على أسباب رفض الباخرة، حيث نقل عنه حينها قوله إن «من غير المسموح اللعب بأرزاق الناس ومصالحهم، والضرر مش مقبول أبداً، وما دام هذا قرار الغازية مجتمعة أنا معكم».
رسوّ الباخرة في أيِّ منطقة لا يعني بالضرورة إمكانية حصولها على طاقة إضافية (هيثم الموسوي)

عدم ضمان أن تبقى الباخرة لثلاثة أشهر فقط، انطلاقاً من أن وجودها قد يعرقل الحلول المستدامة لأزمة الكهرباء. وقد قُرِن هذا السبب بالكثير من الشكوك المرتبطة بالتخوف فعلياً من عرقلة مساعي رجل الأعمال (ق. ح.) للحصول على حق تنفيذ معمل في الموقع، علماً بأنه سبق للرجل أن تقدم بعرض لإنشاء معمل في الزهراني في المناقصة التي ألغيت.
الحفاظ على مصالح أصحاب المولدات، وعلى رأسهم رئيس بلدية الغازية محمد سميح غدار، الذي يملك شركة تعمل في قطاع المولدات الكهربائية (مسجلة في جمعية الصناعيين اللبنانيين)، علماً أن الأخير نفى ذلك، وقال إن شركته تعمل بأقل من نسبة ثلاثة بالمئة في لبنان.
في مواقع التواصل، بدا واضحاً أن من شنّ الحرب على رافضي الباخرة، إما ينتمون إلى حزب الله أو يناصرونه، خاصة أن الحزب لم يعترض على ربط الباخرة بالزهراني، وقد قام النائب نواف الموسوي بمسعى على خط «أمل» ـــــ «كهرباء لبنان»، إلا أن محاولته باءت بالفشل، نتيجة إصرار «أمل» على موقفها، الذي أبلغته إلى المؤسسة مباشرة.
عند هذه النقطة، انتهى النقاش وانتقلت باخرة Ersa Sultan إلى الجية، حيث أعلنت الشركة المالكة لها ربطَها على الشبكة في 18 تموز الماضي. لكن هناك برزت مشكلة تقنية مرتبطة بعدم القدرة على الاستفادة بأكثر من 40 ميغاواط من قدرة الباخرة البالغة 235 ميغاواط، بسبب عدم قدرة مخارج معمل الجية وشبكة النقل التي تنطلق منه على تحمّل أكثر من هذه الكمية.

الباخرة باقية؟
مصادر حركة أمل تعيد التذكير بموقفها المبدئي الرافض للاستعانة بالبواخر، وتذكّر بأن وزراءها سبق أن اعترضوا على بند البواخر، عندما طرح على مجلس الوزراء في جلسة 21 أيار. أما بيان الحركة، الصادر أمس، فيذهب بعيداً في التمسك بالموقف الرافض لرسوّ الباخرة في الزهراني، بالإعلان أنها «تهمة لا ننكرها وشرف ندعيه، لأن الباخرة ظاهرها مجاني لثلاثة أشهر، والحقيقة هي كلفة باهظة على اللبنانيين لثلاث سنوات، ولأنها ستعمل على تعطيل إنشاء معمل جديد في الزهراني الذي يشكل فرصة واعدة للعمل وحل لأزمة الكهرباء التاريخية للبنان...».
من جهته، يبدو الوزير علي حسن خليل في حديثه لـ«الأخبار» واثقاً من أن كل ما يقال عن مغادرة الباخرة في 19 تشرين الأول المقبل، ذرٌّ للرماد في العيون، إذ إن مَن أحضر الباخرة إلى لبنان يدرك أنه عندما تربط بالشبكة سيكون صعباً التخلي عنها، ربطاً بالزيادة التي يمكن أن توفّرها في التغذية بالتيار، والتي سيكون من الصعب أن يتقبل المواطنون خسارتها. لكن، في مؤسسة كهرباء، تكرار لعبارة واحدة: حتى لو أراد وزير الطاقة إبقاءها، فإن وزير المالية يملك التوقيع على الاعتمادات، وبالتالي سيكون قادراً على حجب الأموال عنها، وعندها إذا أرادت أن تبقى مجاناً، فأهلاً وسهلاً، وإذا رفضت المالية أن تدفع لها، فتنسحب من تلقاء نفسها. لكن للوزير علي حسن خليل وجهة نظر ثانية: من يستطيع أن يتحمل عدم التوقيع على اعتمادات تساهم في زيادة التغذية بالتيار؟ أما عن حاجة التمديد للعقد مع الشركة إلى قرار من مجلس الوزراء، فيوضح أنه بالمبدأ صحيح، لكن أمامنا تجربة الباخرتين السابقتين، بقيتا بحكم الأمر الوقع ثماني سنوات (مع قرارات حكومية)، ووجودهما كان سبباً مباشراً في عدم تحقيق أي تقدم في مسألة الحلول المستدامة.
في الأساس، يرفض خليل الحديث عن مجانية الباخرة: إنها تزيد من الأعباء على الخزينة، من جراء الفيول الذي تتكفل الدولة بتوفيره، تماماً كما فعل التمديد للباخرتين القديمتين لثلاث سنوات.
لكن بالرغم من كل الملاحظات المشروعة على البواخر، ما الرابط بين وجود الباخرة، التي وافق عليها مجلس الوزراء، وعارضها وزراء حركة أمل والوزير مروان حمادة، وإمكانية إنشاء معمل جديد في الموقع نفسه؟
نظرياً، لا رابط بين الاثنين، خاصة أنه يفترض بالمناقصة التي أُقرَّت في مجلس الوزراء أن تكون على السكة، لكن في المقابل، ثمة من يرى أن وجود الباخرة في موقع إنشاء المعمل، قد يسمح بالحصول على معلومات إحصائية يمكن أن تضرّ بالعرض الذي سيقدّم. لأمل وجهة نظر ثابتة: تكريس البواخر كأمر واقع يسمح بالتلكؤ بإنجاز المعامل، وتجربة السنوات الأخيرة أكبر برهان.

فرضية خاطئة
ما يزيد التشنج على مواقع التواصل الاجتماعي، كان افتراض أن مكان رسوّ الباخرة يعني تغذية تلك المناطق بالتيار لمدة تراوح بين 22 و24 ساعة يومياً. بُني هذا الافتراض على الإعلان أن نقل الباخرة إلى الزوق سيؤدي إلى توفير الكهرباء في المنطقة لفترة تقارب 24/24. هذا حكماً ليس صحيحاً. فبحسب مؤسسة كهرباء لبنان، ربط الباخرة بالزهراني كان سيحسّن التغذية في الجنوب كما في غيره من المناطق بما معدله ثلاث ساعات يومياً، إلا أن أهمية وجود الباخرة في الزهراني مرتبط بوجود خط الــ220 هناك، الذي يسمح بتوفير التيار لكل المناطق التي تضمّ محطات رئيسية لشبكة الــ220 ك. ف.، علماً أن هذه المحطات موجودة في: الزهراني، صور، النبطية، المصيلح، صيدا، الضاحية، المكلس، جب جنين، كسارة، بعلبك، اللبوة، اليمونة. وهذا يعني، بالتالي، استفادة أغلبية مناطق الجنوب، وجزء من جبل لبنان ومعظم البقاع، من الباخرة التي كان يفترض أن ترسو في الزهراني، لكن ليس من طاقة على مدار الساعة كما تردد، بل هناك 3 ساعات إضافية من التغذية، علماً أن وجودها هناك هو الوحيد القادر على تأمين الاستفادة من كامل طاقة الباخرة (230 ميغاواط)، ولذلك فإن المؤسسة لا تزال حتى اليوم تفضّل ربط الباخرة بالزهراني.
أمل تتبنى رفض الباخرة، وحزب الله صامت، والناس يسألون عن هوية المسؤول


بنتيجة رفض دخول الباخرة إلى الزهراني وانتقالها إلى الجية، انخفضت الطاقة المستجرة منها إلى 40 ميغاواط من قدرتها فقط، نظراً لمحدودية قدرة خطوط النقل على شبكة الــ 150 ك. ف. المربوطة بالجية.
ومقابل هذه الكمية القليلة من الطاقة، كان الحل بنقل الباخرة إلى معمل الزوق (يُتوقع وصولها الأربعاء)، الموصول أيضاً على خط الــ150 ك. ف، أي الذي لا يمكنه نظرياً أن يزيد الطاقة على الشبكة أكثر من 40 ميغاواط، أسوة بالجية، لكن مع فارق بسيط كان حاسماً في ترجيح كفّته: في الزوق محوّل للطاقة من 150 ك. ف. إلى 66 ك. ف.، وهو يسمح بالتالي بنقل الطاقة من شبكة الـ150 إلى شبكة الـ66 المقفلة التي تضم 6 محطات (الزوق، جعيتا، حقل الريس، بكفيا، فيطرون وأدما)، وتسمح باستفادة أجزاء كبيرة من المتن وكسروان من زيادة الاستجرار من الباخرة الثالثة بنحو 90 ك. ف. تنقل على شبكة الــ66 غير المتاحة إلا في المناطق المذكورة سابقاً (غير موصولة على الشبكة العامة).
كل ذلك لا يعني الحركيين بشيء. مصدر في حركة أمل يقول لـ«الأخبار»: «صحتين على قلبكم (أهالي المتن وكسروان) هؤلاء لبنانيون مثلنا مثلهم»، لكنه يكرر ما أشار إليه بيان الحركة: «إذا كانت باخرة ستحلّ مشكلة الكهرباء في الجنوب، فلتقم شركة كهرباء لبنان بتخصيص معمل الزهراني لتغذية الجنوب، وهو يفيض عن حاجة الجنوب لكونه 450 ميغاواط، عندها ينعم أهلنا في الجنوب 24/24 بالكهرباء ويوزع باقي الإنتاج على المناطق اللبنانية الأخرى، ولا حاجة للباخرة في الزهراني»!

اعتصام للحركة
لم ينتهِ الموضوع بعد. حالة الغضب لا تزال على حالها، ومن يُحمَّل المسؤولية هو حركة أمل أولاً، وصمت نواب حزب الله ووزرائه ثانياً. ولأن الحركة تصرّ على اعتبار إبعاد الباخرة عن الزهراني «تهمة لا ننكرها وشرف ندعيه»، فقد قررت الاستمرار في حملة الدفاع عن موقفها، عبر الدعوة إلى وقفة احتجاجية أمام معمل الكهرباء في الزهراني، عند الساعة الحادية عشرة من قبل ظهر اليوم، «تعبيراً عن الاستنكار والرفض للتعامل الجائر من كهرباء لبنان مع أهلنا في مناطق الجنوب وحرمانهم التغذية الكهربائية».