أرخت احتمالات شنّ عدوان غربي على سوريا ظلالها على لبنان أمس، مع صدور عددٍ كبيرٍ من المواقف السياسية الرافضة للعدوان، أبرزها لرئيس المجلس النيابي نبيه برّي.لكنّ الحكومة اللبنانية، التي اكتفى رئيسها سعد الحريري بتكرار معزوفة «النأي بالنفس»، أمضى يوم أمس مستمراً بسياسة دفن الرأس في الرّمال. لا اجتماع عاجلا لمجلس الدفاع الأعلى، ولا لمجلس الوزراء، بل جلسة عاديّة للحكومة اليوم، قد تتحول على الأرجح ساحة للاشتباك حول ملفّ الكهرباء ونقل اعتمادات من احتياطي الموازنة إلى موازنات الوزارات، لمصاريف تدخل في باب الرشاوى الانتخابية.
ينسى بعض اللبنانيين أن لبنان ليس جزيرة معزولة عن سوريا. حتى قبرص، معنيّة بالتطورات، جغرافياً وسياسياً وميدانياً. أما لبنان، فهو جزء من مسرح الاشتباك المنتظر. لا بل على الأرجح أن يكون المجال الجوي اللبناني الممرّ الرئيسي للصواريخ الغربية التي ستنطلق من السفن والغواصات في البحر المتوسط في مسعاها لضرب الأهداف السورية، وممرّاً لصواريخ الدفاعات الجويّة السورية والروسية التي ستواجه صواريخ العدوان. في الاشتباك الجوي الأخير بين الدفاعات الجوية السورية وطائرات العدو الإسرائيلي، وقعت بقايا الصواريخ في البقاع وجبل الشيخ اللبناني. وقبل أيام، خرقت إسرائيل المجال الجوّي اللبناني واستهدفت مطار «تي فور» في حمص، فكيف سيكون الحال وقت الاشتباك الكبير في سماء لبنان؟
بالطبع، ليس بمقدور لبنان «الرسمي» التأثير في مجرى الأحداث. لكنّ الواجب، على الأقل، حفظ الكرامة الوطنية. وتلك تعني أن لا يقبل لبنان أي عدوان على بلد عربي شقيق، هو في هذه الحالة سوريا، التي لا تزال الاتفاقيات المعقودة معها أقوى من قرارات البرلمانين في الدولتين معاً، وهي وقعت لمثل هذه اللحظات بالذات: وحدة المسار والمصير، في الحرب والسلم.
ماذا لو استهدف القصف مواقع للمقاومة اللبنانية في سوريا؟


لا شكّ بأن «وحدة المسار والمصير» شعار «خنفشاري» بالنسبة لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، كما قال أمس. الحداثة وما بعدها، عند جعجع، تعني أن يفتح لبنان سماءه وأرضه وبحره لاستهداف سوريا. وعقلية جعجع، هي عقلية قديمة متجدّدة، عنوانها أن يكون لبنان منصّة لاستهداف سوريا، وهو ما أمضى لبنان جزءاً من سنوات حربه الأهلية بسببه.
أمّا سياسة النأي بالنفس، فهي وصفة من الوصفات السحرية اللبنانية للحفاظ على الحدّ الأدنى من الهدوء، ابتدعها السياسيون اللبنانيون ونجحت في منع انفجار لبنان على مدى السنوات الماضية. لكنّها، في الظرف الحالي، إذا تُرْجِمَت غضاً للبصر عن استعمال الأميركيين للأجواء اللبنانية لقصف سوريا، فإنها تعني انخراطاً في العدوان ومساهمةً «عينية» لبنانية مع الأساطيل الغربية لضرب سوريا.
برّي كان واضحاً أمس في تصريحه لـ«الأخبار»: رفض مطلق للعدوان على سوريا وترجمة النأي بالنفس برفض استخدام الأجواء اللبنانية. وغمز من قناة تصريح الحريري بشأن النأي بالنفس، مشيراً إلى أن «دعاة النأي بالنفس في هذه الحالة يساهمون بالعدوان على سوريا». ومثله فعل وزير الخارجية جبران باسيل في مقابلة مع قناة «الجزيرة»، حين أكّد رفض أي عدوان على سوريا مهما كانت ذرائعه ورفض استخدام الأجواء اللبنانية. وكذلك الأمر بالنسبة للنائب سليمان فرنجية، الذي غرّد مؤكّداً رفضه العدوان واستخدام الأرض والسماء والمياه اللبنانية. النائب وليد جنبلاط لم يبقَ خارج دائرة المواقف، إذ أكّد أنه يؤيّد مواقف برّي، وأن «على اللبنانيين جميعاً إدانة استخدام الأجواء اللبنانية لضرب سوريا. هذا هو الحدّ الأدنى»، مؤكّداً أن موقفه لا يستهدف أحداً في الداخل اللبناني، في إشارة للحريري أيضاً.
لا شكّ بأن العدوان المحتمل على سوريا سيطرحه عدد من الوزراء على طاولة جلسة الحكومة اليوم، فهل يبقى الانقسام «مضبوطاً» ويستفيد اللبنانيون بتحصين وحدتهم الوطنية قبل وقوع الاشتباك عبر سلسلة من الإجراءات، أولها تأكيد مجلس الوزراء على رفض استخدام الأجواء اللبنانية وإدانة العدوان؟ ماذا لو استهدف القصف مواقع للمقاومة اللبنانية في سوريا وسقط شهداء لبنانيون يقاتلون إلى جانب الجيش السوري؟ خصوصاً أن المملكة السعودية، كما صرّح ولي العهد محمد بن سلمان، ستكون جزءاً من هذا العدوان ولو أن مشاركتها العسكرية مستبعدة، لكنّها شريكة بالغطاء السياسي والتغطية المالية.
من الواجب أيضاً، ترجمة موقف بري وباسيل، وموقف رئيس الجمهورية ميشال عون المنتظر، بإبلاغ سفراء أميركا وفرنسا وبريطانيا والدول التي من الممكن أن تشارك في العدوان على سوريا، رفض لبنان الرسمي خرق الأجواء اللبنانية والتعدي على السيادة، كي لا تبقى المواقف في إطارها «النظري».