غزة | تفتك بالغزيّين أزمة سيولة خانقة، بعدما دمّر الاحتلال الإسرائيلي النظام المصرفي، مانعاً أيضاً إدخال الأموال من الخارج، منذ بدء العدوان قبل نحو عام. ويبدي الموظف الحكومي، أيمن سمور (50 عاماً)، امتعاضه ممَّا يواجهه من صعوبات في الحصول على راتبه الشهري، في ظل تدمير العدو المصارف وفروع الصراف الآلي، ولا سيما في مناطق شمال القطاع. ويقول سمور، في حديث إلى "الأخبار": "ما إن يعلن عن الراتب الشهري، حتى تبدأ مرحلة البحث عمَّن تتوفّر لديه سيولة، وكل شخص يعطيك موعداً لتسلّم المبلغ، ثم يعتذر بعد أسبوع من الانتظار، لتصل في النهاية إلى تأخير يُحسم من راتبك 15% إلى 20%". ويبيّن الرجل أنه يضطر في كثير من الأحيان للحصول على عملة بالية، مقابل خفض نسبة الحسم، مؤكداً أن "الراتب لم يَعُد يفي بالاحتياجات اليومية. نحصل على 50% إلى 70% من المعاشات، والغلاء يستشري".من جهته، لا يخفي يسري الغول الذي يعمل كاتباً وروائياً، غضبه جرّاء ما يعانيه من "مافيا تجار العمولة"، قائلاً، لـ"الأخبار": "أيّ راتب أو مكافآت مالية أو أيّ مساعدة مالية سواء من الأقارب أو الأصدقاء في الخارج محوّلة على حسابك البنكي، يشاركك فيها التاجر أو صراف العملة الذي يتقاضى 25% من المبلغ المراد سحبه". ويضيف: "يتلاعب التجار بالأموال المتوفّرة في السوق، ويعطونك إياها مرة بالية وأخرى ممزّقة، وكأنّ البنوك مفتوحة ويمكن تغييرها ونحن نحجم عن ذلك!"، متسائلاً: "ما الذي يفعله المواطن الذي لا يجد أمامه سوى هذا المال؟". ويلفت إلى أن استغلال المواطنين في أموالهم ازداد بشكل كبير، "فبعض التجار يقبل بالأوراق النقدية القديمة من فئة الشيكل مقابل حسم 20 شيكلاً من قيمتها الحقيقية"، مطالباً الحكومة الفلسطينية بالعمل على "لجم هؤلاء التجار الذين استشروا في قطاع غزة".
أمّا أم محمد (50 عاماً) التي تعيل أطفالها الأيتام، فتشكو من عدم توفّر سيولة مالية بيدها، بعدما "أصبح الاعتماد الأكبر في حياتنا على المساعدات". وتضيف: "المواصلات مرتفعة جداً ووضعها سيئ، نحاول التوفير قدر المستطاع، نمشي حتى نوفّر". وتقول أم محمد، لـ"الأخبار:" "بيوتنا دُمّرت وأموالنا ذهبت تحتها، ولم أعد أستطيع الحصول على كفالات أطفالي الأيتام بعدما دمّر الاحتلال البنوك وأجهزة الصراف الآلي في مدينة غزة وشمالها". وتضيف: "أصبحنا نعيش حرباً جديدة في ظلّ الحرب التي نعيشها، وهي حرب الغلاء وشح السيولة، فإذا ما أردت شراء الدواء لأطفالي أو الملابس والكساء، لا أجد ما يكفي من المال لتوفير احتياجاتهم ومستلزماتهم، ما يزيد من العبء النفسي عليّ وعلى أولادي".
سلطة النقد الفلسطينية تتحمّل مسؤولية كبيرة بعد الاحتلال الإسرائيلي، في أزمة السيولة التي يعانيها الغزيون


ووفقاً لسلطة النقد الفلسطينية، فإن عدداً من فروع المصارف ومقراتها تعرّضت للتدمير نتيجة العدوان على قطاع غزة، وإنه "نتيجة للظروف القاهرة والواقع الأمني وانقطاع التيار الكهربائي، تعذّر فتح ما تبقّى من فروع للقيام بعمليات السحب والإيداع في كل مناطق القطاع". ونجمت عن ذلك، بحسبها، "أزمة غير مسبوقة في وفرة السيولة بين أيدي سكان القطاع وفي الأسواق". على أن الباحث والمختصّ في الشأن الاقتصادي، أحمد أبو قمر، يرى أن سلطة النقد الفلسطينية تتحمّل مسؤولية كبيرة بعد الاحتلال الإسرائيلي، عن أزمة السيولة التي يعانيها الغزيون. و"تُعتبر السيولة عصب العمل التجاري، وأيّ خلل فيها يؤدي إلى خلل بين البائع والمشتري، وتنتج من ذلك السوق الموازية وعمليات التكييش ومشاكل البنوك التي يعيشها المواطن الغزي في الوقت الحالي"، وفق ما يقول أبو قمر، مضيفاً، في حديثه إلى "الأخبار": "مذ بدأت الحرب الجارية، يرفض الاحتلال الإسرائيلي التعامل مع سلطة النقد الفلسطينية لإدخال النقص في السيولة من عملتي الشيكل والدولار وإخراج الفائض في السيولة من عملة الدينار، ما نتج منه العديد من المشكلات المالية". ويوضح الباحث الاقتصادي أن "تلك المشكلات تتمثّل في أن البنوك لا تستطيع تنفيذ طلبات العملاء بفعل الوضع الأمني، كما أنها خلقت مشكلة السوق السوداء والتي تحصل على نسبة 15% أو 20% مقابل تكييش المال، بما يعادل خمس المبلغ أو أقل أو أكثر ويؤخذ من المواطن من دون وجه حق"، مرجعاً السبب في ذلك إلى سلطة النقد "التي لا تقوم بالمهام المنوطة بها في العملية المصرفية في قطاع غزة منذ بداية الانقسام عام 2007".
ويؤكد أن البنوك الفلسطينية شريكة في الأزمة الحالية "خاصة السوق السوداء، وذلك لسببين: أولهما، أنها تعطي الأموال المحوّلة على التطبيق البنكي من دون أيّ عمولة أو خصم فقط لوجود معارف وأقارب لهذا العميل بينما هو يكيش للمواطنين مع حسم 20% من المبلغ المستحق؛ ثانيهما: نزوح البنوك بداية تشرين الثاني من العام الماضي من شمال وادي غزة، والاكتفاء بثلاثة أو أربعة صرافات في مدينتَي رفح ودير البلح، أوجدا ذريعة لخلق السوق السوداء". ويتابع: "لو أبقت البنوك على عملها بالكامل بطريقة أو بأخرى، سيحصل العميل الذي لديه مال في البنك على حاجته مع تحديد نسبة معينة لسحب الأموال حسب ما هو متوفر من سيولة في المصرف". وفي ما يتعلّق بمشكلة العملة التالفة أو ذات الطبعة القديمة، يشير إلى أنها تفاقم من مشاكل السيولة كونها تزداد يوماً بعد يوم في ظلّ صمت سلطة النقد وعدم وجود أيّ تصريح يطمئن المواطن للتعامل بتلك العملة، "والبنوك تركت المواطن في صراع وهوس في هذا الجانب".
وحول السبل لحلّ مشكلة السيولة، يشدّد أبو قمر على ضرورة ضغط سلطة النقد على الاحتلال الإسرائيلي للعمل وفق "بروتوكول باريس الاقتصادي" لعام 1994، والذي يلزم الاحتلال بإدخال ما يلزم من سيولة وإخراج الفائض وفقاً لنسب محددة شهرياً، مؤكداً أيضاً أهمية فتح البنوك فروعها في مدينة غزة. ويلفت إلى أنه يقع على عاتق وزارة الاقتصاد دور كبير في متابعة عملية الصيرفة، كما يناط بوزارة الثقافة العمل على توعية المواطنين في شأن أن تكون عملية سحب الأموال وفق الحاجة، حتى يتمكّن الجميع من الحصول على المال.