لن يحظى الاحتلال الإسرائيلي بما حظي به مُستعمرو الأمس من هروب من الصورة، بل إن الإبادة الحالية التي يمارسها في غزة، وكُلّ صنوف الإرهاب والجريمة التي يرتكبها، مُلقاة على ضمير العالم بالبثّ المباشر. إنه عصر نهاية النسيان، عصر لا يمكن الفكاك فيه من تأثير هذه الصور التي تلقيها همجية إسرائيلية برعاية بيضاء على كاهل كوكب الأرض. عصر يُسجّل فيه كل شيء على مواقع التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى أرشيف فعلي، تتراكم فيه الصور التي تأتينا من جرائم الاحتلال: كمّ هائل من الصور في ملابس داخلية نسائية من غزّة، وركوب درّاجة هوائية لطفل استولوا على بيته بعدما هرب منه أو قُتِل فيه. نسف مبانٍ للتسلية ورغبة في التدمير وعدم الإبقاء على أيّ شكل للحياة. تكبيل أسرى عُراة والتنكيل بهم. إنزال أطنان من القنابِل الحارقة على خيم نزوح. الكتابة على حيطان المدارس والبيوت عن كون مغول العصر مرّ من هنا!

لكن صور بدر دحلان، الذي أُفرِج عنه بعد شهر من جحيم التعذيب، بعيونه المُحملقة الشاخصة التي تنظر في ضمير العالم من صميمه، والتي تحكي حكايته مع «كابوس» المُعتقل، أضافت الكثير إلى صور الوحشية الإسرائيلية التي اجتمع العالم كله لدعمها ومساندتها. عيون تتكلّم وتحكي قصة اعتقال وحشية وغير آدمية بالمرّة يتركها بدر بجحوظه المخيف. جحوظ من رأى العالم على حقيقته، من رأى لغو حقوق الإنسان الفارغ، من رأى كيف يُضحّى بضمير العالم وإنسانيته على مذبح حماية كيان الاحتلال الإسرائيلي بأيّ ثمن.
لأشهُر حوصِرنا بتلك الصور، مُعجم لغوي كامل لا يفي بالتعبير عن كمّ الوحشة والألم الذي يُرافق ذلك الواقع المُعاش في غزة. إلى جانب من تحاصرهم منّا ألماً ولوعة، فإنّ هذه الصور تُحاصِر إسرائيل من كُلّ جانب، وفي عصر نهاية النسيان هذا، لن يستطِع نازيّو أو مغول العصر، وأيّ مثل آخر عن الطغيان والتجبُّر، أن يهربوا من شرّ أعمالهم. ليس تعويلاً على ضمير العالم، لأن العالم الذي لا يوقفه كُلّ هذا الدم المسفوك على الأرض، لن توقفه أيّ صورة أخرى مهما بلغت بشاعتها ووحشيتها، لن يوقفه مقطع بدر وشهادته عن السجون الإسرائيلية ولا عن صعود الدبابات على أجساد الفلسطينيين ولا عن الجثث المتحللة التي تُركت في مُجمل مناطق القطاع، ولا التمثيل بصور ملابس نسائية داخلية ولا الجلوس على أسرة أطفال واقتحام خصوصيات البيوت ولا ربط جريح بمقدمة آلية عسكرية إسرائيلية كدرع بشري ولا القصف بالقنابل الحارقة مخيّمات النازحين وارتكاب المجازر بحقهم... ولا أيّ مشهد آخر حتى لا يطول الحديث. الطاغية، أيّ طاغية، يصل لكي يغرق بالدم الذي يسفكه. قد يكون المُستعمرون الأوروبيون قد أفلتوا مما فعلوا بسكان أميركا الأصليين وتلك المجازر التي ارتكبها الألمان في ناميبيا (أفريقيا) أو تلك الفرنسية في الجزائر وغيرها من مجازر وأفعال مُستعمري الأمس واليوم من شرق الأرض ومغربها. صحيح أن العالم لم يكن أقلّ جنوناً وأنّ جرائم الاحتلال الإسرائيلي ليست واقعاً مُستجدّاً على كوكب الأرض ولا تختلف في شيء عن داعميها المُستترين والعلنيين منهم، لكن ما يختلف في حالة إسرائيل اليوم هو واقع الصورة التي لا يُمكن محوها. إنه عصر نهاية النسيان وعصر حيث تُحفر الصور في العالم الذي لا يُمكن محو شيء منه. وليست تلك الصورة التي تُبرِز جرائم إسرائيل فقط، بل أيضاً تلك التي تُظهِر بطولات المُقاومين في السابع من أكتوبر وما بعده، في غزة وفي جنوب لبنان وغيرهما من الجبهات.
حوصِرت إسرائيل مندون أن تعرف رُبّما، بصور لن تزول، وتأثير ليس ضرورياً أن يظهر بشكل مباشر بل ستُرينا إياه السنوات... كمُجرمي حرب وإبادة جماعية وعساكر جُبناء تحت أقدام المقاومين. ليس ما يحدث بالشيء القليل، وليس من المبالغة إن قلنا إنّ العالم يتغيّر.