هناك ما يستحقّ عناء البحث في مسألة طبيعة الصحافة الاستقصائية في بلداننا. إذا كانت الصحافة الاستقصائية تقوم على منهجية بحث صارمة، وتتورّط في النبش والتفتيش عن أدلةٍ ومنطلقات بغية تقديم سردية جديدة أو لتوكيد واحدة راسخة مع إضافاتٍ أوجدها فعل التقصي، فما نحن إزاءه عندما نذكر هذا النموذج الصحافي ــ أي الصحافة الاستقصائية ــ هو في غالبية الأحيان، محكمة اعتباطية غايتها الإدانة وتوجيه أصابع الاتهام نحو «الأشرار». الاشتغال يسير كالآتي: الاستقصاء يبدأ من حيث ينتهي. مشوار على طراز أفلام الأكشن الهوليوودية حيث لا غرض من الفيلم سوى نهايته، عندما ينال «الشرير» عقابه أو عندما تثبت عليه التهمة. هذا لأنه، هنا، في منطقتنا، عوضاً عن أن تكون الصحافة الاستقصائية رحلة تقصّي عن الحقائق، ووضع «المسلّمات» تحت مبضع النقد، بات الاتكاء على «المسلّمات» ركيزتها الأساسية ونقطة انطلاق عملها. «المسلّمات» التي صُنعت، أساساً، في مطابخ إعلامها وأوقعت الجمهور في التخمة.
من الفيلم

«صحافة استقصائية» بين مزدوجين، صارت نوعاً من المحاكاة. نقطة الانطلاق التي تعتمد عليه هذه «الصحافة الاستقصائية» هو ما يعتنقه الرأي عام؛ هو «الحس العام» الذي تم أساساً اختراعه عبر شحن المتلقّي، وتجريعه «مسلماتهم». هي إذاً نوع متألق من البروباغندا. «أبطال» هذا المضمار، عموماً، اعتنقوا الصحافة الاستقصائية لأنها مسار بديل مضاد عن القائم غير أنهم يستعينون بالمسلّمات السائدة، وبمفردات السائد، ووجهة السائد، وهم يرسخون سلطة السائد إنّما يجهدون في تأصيل سرديته وأحكامه. آخر إصدارات هذا الاشتغال الأيديولوجي، وثائقي بعنوان «لبنان: يوميات حرب غريبة» (Liban: Drôle de guerre) أعدته صحيفة «لوريان لو جور» وتعرضه قناتها يوتيوب.
«وثائقي حصري»، وهذه ليست دعابة. إنه الوصف الذي ارتأى معدّو الوثائقي إطلاقه على عملهم قبل عنونته، والتشديد عليه عبر كتابته بالخط العريض. يُقدِّم «الوثائقي الحصري» تحقيقاً ميدانياً عن الحرب الذي يخوضها لبنان مع إسرائيل، ويزعم أنّه يوثّق السياق الاجتماعي والمزاج العام لقرى الجنوب الحدودية ولحال المواطنين هناك عبر تسجيلات كرونولوجية ليومياتهم في الحرب التي يعيشونها منذ الثامن من أكتوبر 2023، إضافة إلى مقابلات مقتضبة أجريت معهم حول أحوالهم وسبل عيشهم تحت وقع الحرب.
يستهلّ الوثائقي جملته الأولى بالتالي: «بعد هجوم حماس على إسرائيل، أطلق حزب الله والفصائل الفلسطينية النيران باتجاه مزارع شبعا، الأرض الذي يتنازع عليها لبنان والكيان العبري. وعليه، فإنّ جنوب لبنان، الذي يؤيد بغالبيته «حزب الله»، تعرّض بدوره إلى القصف». حسناً، حدّد معدّو «لوريان لوجور» «المسلّمة»، وجهة الوثائقي «الحصري» أقرَّت فإذاً. بالمناسبة، إنّ «الحصرية» التي يمتاز بها لا مثيل لها على الإطلاق، لا من حيث الصفاقة السياسية ولا من حيث الرداءة.
الأمر محسوم منذ البداية. الانحياز غير خفي، معلن وغير خجولٍ. وعليه، ستضع قاعة «المحكمة»- التي يعشق هذا العمل الصحافي الاستقصائي مناخها ووظيفتها- ملامح المعتدي وهوية المعتدى عليه: هناك من «بدأ» الهجوم، وهناك من «يرد» هذا الهجوم. على هذا النحو، انقلب الحدث مع «لوريان لوجور» وصار إسرائيل التي تلقّت النيران من لبنان «تدافع عن نفسها».
«حرب غريبة» أو «حرب زائفة» مصطلح ينتمي إلى عالم الحرب. أطلقت التسمية «حرب غريبة» لتوصيف الوضع العسكري على الحدود الألمانية الفرنسية يوم أعلن الفرنسيون الحرب على ألمانيا النازية. لكن «لوريان لوجور» وعلى شاكلة طبيعة استقصائها الصحافي الزائف، تستمر بالتلاعب والحذلقة وتشييد الغشاوة عبر التلطي وراء مصطلحات تبدو علمية ورصينة، بيد أن اللوريان تمرر المصطلح («حرب غريبة» أو «حرب زائفة» Phoney war) بلغة «المسلّمات»، فتعود به إلى المدلول البديهي، بأنّ الحرب هذه غريبة، لأنها أولاً وقبل كل شيء نتيجة إقدام «حزب الله وفصائل فلسطينية أخرى على إطلاق النيران»، ما يعني أنّ «التورط» في الحرب جاء إرادياً.
الغرابة الموصوفة هنا ليست بسخريةٍ، بل استهزاء متعجرف. فكيف إذا كان قادماً من فرنكفوني؟ سيكون استهزاء المُتعجرف. ولأن التعجرف غالباً ما يكون مصحوباً بالشفقة، سيكشف الوثائقي عن وجهه الوثائقي «المتضامن» مع الجنوبيين «ضحايا الحرب».
«آلاف الأشخاص الذين يسكنون عند القرى الحدودية تعرضوا للتهجير منذ الأسابيع الأولى لاندلاع الحرب». هذه المأساة بالنسبة إلى الوثائقي، ناجمة عن تداعيات «الحرب الغريبة». سيغوص الوثائقي في مناخ هذه المآسي لتشكيل موقف لا يدين مشاركة لبنان في الحرب فقط، إنما كي يضع حال الجنوبيين، ومصائبهم الإنسانية بوجه قرار «حزب الله» السياسي، فـ «لوريان لوجور» على شاكلة النزعات «الإنسانوية» المضحكة، تفصل بين الإنساني والسياسي، إذ ترى الأول ضحية مغبونة فيما الثاني جلاداً مستبدّاً.
مثل الذين يأتون بثياب الحملان لكنهم ذئاب خاطفة، تدخل كاميرا «لوريان لوجور» إلى مرابع ضيوفها. الكاميرا مثبتة لا نسمع أسئلة المعدين، بل نتعرف إلى نازحة مصابة. عامل دفاع المدني مرهق. والدة شهيد مفجوعة. رئيس كشافة متوتر يعيش هاجس الحرب يعلّم أصدقاءه كيفية القيام بالإسعافات الأولية في حال وقع عدوان. كل التصريحات المأخوذة ستنقلب رأساً ضد أصحابها. تصاريح ستضعها «لوريان» في سياقٍ محموم يرى الجنوب مقبرةً محتملة جراء حرب عبثية لا شأن للبنان بها. فالنازحة المُصابة التي قالت بأنّ الحرب بدأها الفلسطينيون سيجعل الحسّ «اللبنانوي» عند الصحيفة يستفيق، ليتصاعد السياق الدرامي ونتحوّل من وثائقي يكشف الجانب «الإنساني» المصاب بلوعة الحرب، إلى الاستعانة بحجة سياسية انعزالية رديئة.
«لبنان: يوميات حرب غريبة» يريد القول بأنّ ما يحدث في غزة ليس شأننا، والحرب ليست حربنا بل نسخة أخرى من حرب الآخرين على أرضنا

ذاك أنّ المراد قوله أنّ ما يحدث في غزة ليس من شأننا، فالحرب هذه ليست حربنا بل نسخة أخرى من حرب الآخرين على أرضنا. تبعاً لذلك فالحق... كل الحق على الفلسطيني. هكذا يُفضَح المتعجرف إذا ما تضامن، ولا يبقى منه سوى استهزائه، وحجة سقيمة بوسعها تبرير تنصّله من مواقفٍ وجودية صعبة. سنسمع في الوثائقي مقتطفات من تصريحات لإسماعيل هنية، ومقابلة مع رجل فلسطيني من مخيم الراشدية يعترف بسبب انحيازه إلى «كتائب القسام». «لوريان لوجور»، الناطقة بالفرنسية، لا تتوجه إلى جمهورٍ يتكلم الفرنسية بل تعوّل على أولئك الذين ينظرون «فرنسياً» تجاه المسائل، ترسم صورة الفلسطيني: إنه عامل تخريب. وهذه نزعة ليست بجديدة عند «لوريان لوجور» ولا إلى سلالة (السياسية والثقافية) المتعجرفين التي تنتمي إليها، هي نغمة رتيبة مللنا سماعها في أيام السلم، أما تكرارها في أيام الحرب، فيجعلنا نتساءل: كيف يمكن قراءة «الفرنسي» في لبنان؟
على أنّ «الفرنسي» هذا عقل لا لغة، يرى الحرب مع إسرائيل صراعاً، ويقرّ بيهودية إسرائيل؛ يسميها الدولة العبرية، ويقدم معلوماتٍ أشبه بالوشاية والتحريض: «هناك بين 225 ألفاً و500 ألف فلسطيني في المخيمات اللبنانية التي لا يستطيع الجيش اللبناني الدخول إليها، مع العلم أن الكثير من هؤلاء الفلسطينيين فارّون من القانون».
وثائقي «لبنان: يوميات حرب غريبة» توظيف لأدبيات لبنان الحرب الأهلية: لبنان المحايد، جار إسرائيل، الذي ينأى بنفسه عن الصراعات، بيد أنه ضحية «نكبات الفلسطيني» الذي يجيء دوماً بالخراب. هو استغلال خبيث لمآسي الجنوبيين الذين يحملون وحدهم، في لبنان، وزر هذه الحرب، وإعادة بث السردية المهيمنة في قالب «صحافي». سردية يتفق عليها الإسرائيلي، بأنّ «حماس» بدأت الحرب. هذا عقل يرى أنّ الحرب بدأت في السابع من أكتوبر لأنه يجهل التاريخ، ولا يؤمن بالحقيقة ولو عاينها بالعين المجردة. وبينما يشير عمال الإطفاء، في نهاية الوثائقي، إلى طائرة إسرائيلية تحلق على علوّ منخفض في السماء، تبقي كاميرا «لوريان لوجور» عدستها متثبتة على أحد العمّال ولا تلتفت إلى الطائرة. طائرة حربية تراها العين المجردة، هذا مشهد يتمناه كل مخرج، فما بالك إذا كان فيلماً وثائقياً عن الحرب في خضم حدوثها؟ إغفال هذا الاعتداء الإسرائيلي يفصح بالكثير.