ترسم المعلومات الأولية عن العملية التي نفّذها جيش الاحتلال في مخيم النصيرات في وسط غزة، أول من أمس، والتي استطاع خلالها «تحرير» 4 محتجزين، لوحة تبدو أشبه بطاولة «قمار» جلس عليها الرئيس الأميركي، جو بايدن، ومدير «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي إي)، وليام بيرنز، وفي مقابلهما، وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، ورئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو. أما «اللحظة»، فترصد استجابة الثلاثة الأوائل لتحدي «الصولد» الذي رمى به الأخير، في اعتقاد جازم لديه بأن «الورق» مغرٍ إلى درجة تسمح برمي ما تبقّى من رصيد في «الصحن»، أملاً في تعويض الخسائر التي تراكمت عليه خلال الأشهر الماضية، إلى درجة لا تمسّ شخصه ومنصبه فحسب، بل تطاول الكيان والبنيان اللذين اهتزا كما لم يحدث في يوم من الأيام على امتداد 76 عاماً ماضية. والتأكيد هنا على استجابة الأول لذاك التحدي، يتأتّى مما جاء على لسانه حين أكّد، في أعقاب الإعلان عن «نجاح» العملية، أن «الولايات المتحدة ستواصل العمل حتى إطلاق سراح جميع الأسرى والمحتجزين في القطاع». هنا، ينطبق على بايدن القول إن «الصبّ تفضحه عيونه».من المؤكد أن الرهان الأساسي في تلك العملية كان ذا مرمى نفسي، يريد شحذ الهمم واستعادة الثقة بقيادة نتنياهو التي أشار استطلاع للرأي أجرته صحيفة «معاريف» قبل أسابيع، إلى أنها تقف عند أدنى الحدود التي وقفت عليها أيّ من حكومات الحرب الإسرائيلية، من دون أن يعني ذلك - ونحن هنا لا نزال في سياق النتائج التي أفضى إليها الاستطلاع الآنف الذكر - أن غالبية الإسرائيليين تميل إلى إيقاف الحرب، حيث الراغبون في استمرارها كانوا عند حدود 55%، لتصبح المعادلة القائمة هي أن الغالبية مع الحرب، لكنّ الغالبية أيضاً مع عزل نتنياهو عن قيادتها لضعف في الكفاءة أو عطب في الرؤية يحول بينه وبين الحصول على «الثمار». ومن المؤكد أن تلك العملية لا يمكن إدراجها في سياقات ذات بعد استراتيجي من النوع الذي يمكن له أن يُحدث تحوّلاً في مسار الميدان والعمليات القتالية. فالعملية التي جرت وسط كثافة نارية من البر والبحر والجو، وأسفرت عن استشهاد 274 من المدنيين الفلسطينيين، إضافة إلى جرح 400 آخرين، كانت حصيلتها «تحرير» أربعة محتجزين، بالمشاركة، تخطيطاً وإسناداً، من «خلية استخبارات أميركية عاملة في إسرائيل» وفقاً لما ذكره موقع «أكسيوس» في تقريره المنشور بعد ساعات من العملية، ثم عاد وأكّده نظيره العبري «واللا»، القريب الصلة بالاستخبارات الإسرائيلية.
العملية لا يمكن إدراجها في سياقات ذات بعد استراتيجي من النوع الذي يمكن له أن يُحدث تحوّلاً في مسار الميدان


أولى المكاشفات وأهمها من بين تلك التي يمكن لحظها بوضوح في سياق العملية، هي أن «رصيف غزة» الذي أعلن «البنتاغون» الأميركي عن وضعه قيد الخدمة قبل نحو شهرين، لم يُنشأ للغايات التي أعلن عنها هذا الأخير. بل ولم يكن ذلك المعلن وارداً في حسابات الإنشاء على الإطلاق. وما أثبتته هذه الحسابات هو أنه كان ذا مرامٍ متعددة، كأن تنطلق منه شاحنة تجري الإشارة إليها على أنها تقوم بـ«نقل مساعدات إنسانية من الرصيف إلى مناطق الاحتياج في غزة«، لكن «المحتاج» هذه المرّة كان وحدة النخبة «يمام» التي تنوّع الفعل - الاحتياج عندها من الرصد إلى الدعم اللوجستي، ولربما الإسناد الناري، وإن لم تؤكد هذا أي من المواقع الإخبارية الميدانية، أو التي لها مصادر تستند إليها في نقل أخبارها، حتى الآن. ما تقدّم، يجعل بايدن شريكاً مباشراً في الحرب، فضلاً عن تصدّع الصورة التي عمل على رسمها عبر «الرصيف». ومن غير الواقعي اليوم القول إن ثمة افتراقات نشأت بينه وبين نتنياهو على «يوميات» الحرب في غزة وأكلافها الباهظة.
ثانية المكاشفات هي أن العملية التي جرى تصويرها على أنها «نجاح تكتيكي يُبرز درجة التناغم العالية ما بين وحدات الجيش» وفقاً لما ورد في تقرير «هيئة البث العبرية» الرسمية، دخلت منذ الساعات الأولى للإعلان عنها في منعرج الارتداد على غاياتها. فقد ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن تظاهرات عدة عمّت المدن الإسرائيلية في أعقاب ذلك الإعلان، وأن «المتظاهرين رفعوا لافتات كُتب عليها أن الفرحة بالإفراج عن 4 محتجزين ممزوجة بالحزن والقلق على مصير 120 محتجزاً آخرين». هذا يعني أن نتنياهو على موعد جديد مع درجة أعلى من فقدان الثقة التي أراد استرجاع بعض منها عبر «مقامرة» السبت، إذ لطالما تأكّد لدى الكثيرين أنه يفضّل، ألف مرة، موت رهائنه ببنادق جيشه، على بقائهم ورقة تهدّد عنقه في يد حركة «حماس».
لا تمثّل تانك المكاشفتان سوى بعض الحقائق، وما ينتظر الآن هو تدفّق ما تبقّى منها وهو كثير. والراجح هنا أن ثمة أطرافاً إقليمية، دولاً أو لربما قوى سياسية، شريكة في الحدث. والفعل أتى، لربما أيضاً، إما بهدف تثقيل الدور، أو إعادة الثقة بما تضعضع من هذا الأخير.