من أجل تحرير أربعة صهاينة، قُتل المئات. من أجل تحرير أربعة، مات أكثر من 200، لكنهم ليسوا أوّل 200 قتلتهم إسرائيل. في الحقيقة، فهي تقتل منذ 76 عاماً. أساس وجودها قام على تكرار طويل لمجزرة النُصيرات هذه. إنّ فكرة الأربعة منهم مُقابِل المئات منّا، فكرة قديمة أُسّس لها وتمّ تثبيتها بالكثير من الدمّ طوال تاريخ الاستعمار في بلادنا. لقد كانت، وعُمِل بها، صُوّرت وصُدِّقت حتّى صارت من المُسلّمات، بأن وظيفتنا في العالم أن نموت. نموت ليعيش الإنسان الأبيض أو ليعيش الصهيوني. نموت ليستمرّ الكوكب في الدوران، ونموت ليصير رُفاتنا وقوداً من أجل سَير آلة الطحن غير الخجولة لنظام العالم. الخبر كما صدَر بأنّ إسرائيل «حرّرت» أربعة من المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية. والحقيقة على أرض الواقع أنّ إسرائيل قتلت أكثر من 200 شخص في ظرف دقائق قليلة، والحقيقة الأخرى أن هذا الكيان المسعور المدعوم من العالم، قتل في ثمانية أشهُر أكثر من 35 ألف إنسان.

(علاء اللقطة)

لكن دَع موتنا جانباً كما جرَت العادة، هلّل العالم ونشر واحتفل باستعادة أربعة محتجزين لدى «حماس». استقبل الرجل الأبيض بوسائل إعلامه الخبر بخزّان من البهجة. أربعة صهاينة محسوبون على البيض، حُرّروا من ثلّة من «الشياطين» سلبتهم الراحة والطمأنينة من بيوتهم في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. هذا هو الخبر الذي ينشره العالم، وهذا ما سيُحكى بعد مئة عام من الآن. ليس غريباً على الغرب ذلك على أيّ حال. ليس غريباً على من زوّر التاريخ ذلك. ليس غريباً على من ارتكب مجازر بحقّ ناميبيا، والجزائر، والهند، وسُكان أميركا الأصليين وغيرها من آلاف المجازر، أن يكذب ويُحاوِل تزوير الحاضر أمام أعيُننا.
تعاطى الإعلام الغربي (وأيضاً الإعلام العربي المتأسرِل)، كما جرت العادة، مع موتنا كحدث جانبي. وهو ما يعكس نظرة هؤلاء، وحكوماتهم لنا. كيف يرون أن قيمة الواحد منهم بألف منّا؟ الإعلام الذي يكذب ويدّعي أنهُ مع الإنسان، ويُريد أن يحميه من الإرهاب والديكتاتورية، ويرانا شعوباً مغيّبة وهو يأخذ على عاتقه مسؤولية تعليمنا وإرشادنا كيف نصير حضاريين ونلحق بركب التطوّر بدلاً من غرقنا في الجهل والإرهاب، يتعاطى معنا بهذه الدونية كأنهُ مُعلّم للبشرية، والباقي عبيد عليهم أن يُطيعوا تلك التعاليم. والإعلام كما هو معروف، يعكس صورة المجتمع أو السلطة بشكل أو بآخر، فإعلام الغرب الذي انتصر ودافع عن حق المُحتلّ في الدفاع عن نفسه وروّج لأكذوبة الرؤوس المقطوعة والنساء المغتصبات في «هجوم حماس الإرهابي» هو نفسه الذي ابتهج وفرح، وأعلن قيام الاحتفالات بعد «تحرير» أربعة محتجزين إسرائيليين حتى ولو كان على حساب حدث جانبي طبعاً، هو موت المئات في دقائق. هو بذلك يعكس نظرة حكومات الغرب لنا، فلا يوجد شيء في العالم منقطع عن سياقه. إنها حكاية طويلة في الاستعلاء والتجنّي وحكاية طويلة من بطولات الأخلاقيين الذين لا يتركون مواطنيهم في أيدي «الهمج» أمثالنا. إنها صناعة الأبطال المزيّفين، وستُصدِّع رؤوسنا تلك «العملية الناجحة والأخلاقية» بفرز إنتاج إعلامي وسينمائي حتّى، عن انتشال «الإنسان» من أيدي «الحيوانات البشرية».
موتنا بالنسبة إلى الإعلام الغربي والإعلام العربي المتأسرِل، هو حدث جانبي


احفظ رأسك، نعيش في بحر من الأكاذيب. احفظ رأسك، وأنت ترى الدول التي تحصد خير الهواء والتُربة والماء، تجتمع في قمّة مُناخ. كي لا تُصدّق أنّ عالماً حُرّاً يُصفِّق في مشهد مسرحي، لقتل الأطفال. كي لا تعتبر حضارياً من يراك سوقاً لتصريف إنتاجه، ومتى ما أراد، تُقلِع طائراته لقتلك. احفظ رأسك، عندما تنحشر فيه صور الأبنية المُدمّرة والأشلاء المُقطّعة، عندما يسمع عن طفل قطعوا عنهُ الماء وآخر قطعوا عنهُ الهواء. احفظ رأسك، سترى العجب، سيقتحمونه ويُلوّثونه بأفكارهم، سيُحاولون مراراً وتكراراً تسييرك مع الكثير مثلك كي تقول ما يُريدون وتُردد دعايتهم، سيكون رأسك سوقاً تُباع لها أحطّ أنواع السلع كي تبقى في دائرة الاستعباد. احفظ رأسك، سيقولون لك العالم ليس بغابة، لكنهُ كذلك. سترى الكثير من التماسيح التي تجرّك إلى مُستنقعها، والكثير ممّن يُنصّبون أنفسهم ملوكاً عليك وعلى ترسانتك الفكرية. احفظ رأسك، سيملؤونه بالشعارات الكبيرة، سيُفهمونك أنّ حتى سلاحف البحر حقوقها مُصانة، وسترى كيف يُحرم الأطفال من لعبهم، أحلامهم، بل حياتهم بالكامل.
تحرير أربعة غزاة كان خبراً يلقى رواجاً وضغطاً ونشراً أكثر من موت الآلاف. هذا هو العالم وهذه حقيقته. لن يتوقّف عن الدوران لأنّ آلافاً منّا ماتوا لكنه سينزع النوم من عيوننا، لأنّ صهيونياً أو أبيض شعر في خطر. احفظ رأسك، سيقولون إن هذه حضارة، وأن الغابة لا تخصّنا، لكن العالم غابة. فطوبى لشبابنا الذين عرفوا أنّه بالمقاومة وحدها يؤخذ الحق، وأن الغصن المرتجف تأخذه الريح.