أوَّلُ ما يتبادر إلى ذِهن غير المتخصِّص لدى ذكر اسم أرونداتي روي (1961 ــ شيلونغ في الهند) بأنّها صاحبة رواية «إله الأشياء الصغيرة» فقط. لكنّ هذه الكاتبة والناشطة السياسية المُنصتة لزفرات المستضعفين، واحدة من أبرز الكتّاب التزاماً بالبيئة وحقوق الإنسان وتغيير مسار العولمة المتوحِّشة، سعياً إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. كما أنها، وفقاً لمجلة «نيويوركر» من أهم 20 مؤلِّفاً أنغلوسكسونياً في القرن الحادي والعشرين. ولدت أرونداتي روي لعائلة وبيئة تعدّدية، في ولاية آسام؛ لأم مسيحية سريانية، ما يجعلُها، وفقاً لهذا التَّمذهب والأصل الشرقي، قريبةً، بل عارفةً بمشكلات وقضايا المشرق العربي؛ بل إنها ورثت عن أمِّها النَّاشطة في مجال حقوق المرأة في ولاية كيرالا هذا الانفتاح على هموم العالم، الذي يتجاوز الانكباب على الكتابة إلى الانغماس في الشأن العام بشكل يومي. أما والدها رجيب روي، الهندوسي البنغالي من كلكتا ومدير مزرعة شاي، فمعهُ انفتحت على عالمِ الفلَّاحين بما فيه من بساطةٍ ومآسٍ في آن.

أرونداتي روي: فلسطين وكشمير هديةُ بريطانيا الإمبراطورية المسمومة للعالَم الحديث

زاد اهتمام أرونداتي روي بالنسيج الاجتماعي للهند. وساعدها في وضعِ الإصبع على الحمولة السياسية للمَظالِم، التحاقُها بمدرسة دلهي للتخطيط والعمارة، حيث درست الهندسة المعمارية، والتقت بالمهندس المعماري جيرار دَا كُونْهَا، رفيقِها الذي عاشت معه في دلهي، قبل الانفصال. بعدها، حصلتْ على منصب في «المعهد الوطني للشؤون الحضرية». وعبر عملها الإداري هذا، استثمرت جولاتِها الميدانيَّة للاطلاع عن كَثَبِ على ما يعتمل في الولايات الهندية من قهر طبقي وعِرقي وديني يمسُّ الأطفال والنساء والعمران البيئي قبلَ أي شيء آخر.
في عام 1984، بدأت مسيرتَها الإبداعيَّةَ بكتابة سيناريو فيلم «مَاسِيْ صَاحِبْ» بالتعاون مع المخرج بْرَادِيبْ كْرِيشِنْ الذي أصبح لاحقاً زوجها. وبعد مسيرة قصيرة في عالم الفنّ السابع، غادرته نحو عدة وظائف وانفصلت عن زوجها.
في مرحلة وسطية بين السينما والكتابة، تحوَّلت روي إلى النقد الفني السينمائي، بمراجعة واستعراض الإنتاجات الهنديَّة، ولعلَّ أبرزَها كان مقالُها في عام 1994، الذي تستعرض فيه بلهجة حادَّة فيلم «مَلِكَةُ قُطَّاعِ الطُّرُقِ» للمخرج شِيخَارْ كَابُّورْ، المستوحى من حياة فولان ديفي. في مراجعتها النقدية بعنوان التي حملت عنوان «بدعة الاغتصاب الهندية الكبرى» شكّكت الكاتبة بحق الوسط السينمائي، بلغته البصرية المباشرة، في إعادة تمثيل اغتصاب امرأة ما زالت على قيد الحياة من دون إذنها؛ متَّهِمةً المخرج بالاستخدام التجاري والدعائي الفج لشخصية وحياة ديفي من أجل تشويهها سعياً إلى مكاسب مالية لا علاقة لها بالسينما. لنلخّص إذن هذا المسار نحو النضج: نشأة مسيحية مشرقية هندوسية، دراسة أكاديمية في تخصّص المعمار الهندسي، اشتغال بالسينما كتابةً للسيناريو وتمثيلاً وتناولاً نقديّاً... كلها تجاربُ أسهمت في شحذ رؤية أرونداتي الثقافية والسياسية وفي توجيهها نحو ثيمات اجتماعية وسياسية ذات شحنة احتجاجية، مع استكمال عُدَّتِها للشروع في الكتابتين التَّخييلية والمقاليَّة (السِّجاليَّة) على مستوى قضايا العالَم.
شرعت في كتابة روايتها الأولى «إله الأشياء الصغيرة» في عام 1992، وأكملتها في عام 1996، مستوحية من حياتها ومستندةً إلى طفولتها في ولاية كيرالا. وأدَّى نشرها إلى جعل روي مشهورةً في جميع أنحاء العالم. فاز الكتاب بـ «جائزة بوكر» عام 1997 وأُدرج في قائمة «نيويورك تايمز» للكتب البارزة في العام نفسِه.
تشتهر روي أيضاً بنشاطها السلمي ومعاركها المتعددة من أجل البيئة، وحقوق السكان الأصليين في الأرض، وقضية استقلال كشمير ومناهضة الأصولية الهندوسية. مقالتها الأولى بعنوان «نهاية الخيال» كانت رد فعل على التجارب النووية الهندية في ولاية راجاستان. وسيعقُبُها مقالُها «الصالح العام الأعظم» ضد سياسة السدود الكبيرة التي تنتهجها الحكومة الهندية، ثم مقال «تناسخ رُمْبِلْسْتِيلْتْسْكِينْ» الذي تحلِّلُ فيه خصخصة قنوات توزيع الخدمات الأساسية العامَّة مثل المياه والكهرباء (يجدر بكل اللبنانيين الاطلاع عليه، لتماثل التجربتين في ترك الرأسمال الطفيلي الفاسد سائباً ومندسّاً في جيوب الناس).
ترى أنّ بعض المنظمات غير الحكومية أدوات لدى الحكومات الغربية لتحييد حركات مقاومة النيوليبرالية


دافعت عن فكرة ما بعد التنمية وشاركت في تصوّرها، فأسهمت في منتديات اجتماعية عدة أبرزها «منتدى مومباي» (2004). في عام 2005، شاركت في المحكمة الدولية الخاصة بالعراق. وفي 29 آذار (مارس) 2010، نشرت مجلة «أوتلوك» الهندية قصة زيارتها المناطق التي يسيطر عليها مقاتلو حرب عصابات الـ Naxalite، بهدف إطلاع الجمهور على أسباب هذا الكفاح المسلَّح إلى جانب صغارِ المزارِعين، ما جعل لهذه القضية صدى وطنياً ودولياً. ورغم أنها لا تتبنَّى شخصياً هذا المشروع السياسي ولا تؤيِّد أساليب المتمرّدين الماويين، إلا أنها تعرضت لانتقادات شديدة من قبل معظم وسائل الإعلام الهندية. وقد تعرض منزلها لهجوم من قبل أعضاء الجناح النسائي لحزب «بهاراتيا جاناتا» (قومي هندوسي). وفي 7 أيار (مايو) 2010، أعلنت وزارة الداخلية الهندية وشرطة ولاية تشهاتيسجاره أنهما سجلتا شكوى ضد صاحبة المقال، بتهمة انتهاك أحكام قانون الأمن العام الخاص في ولاية تشهاتيسجاره.
في كتابها «نهاية الخيال»، الذي طوَّرته عن مقال بالعنوان نفسه، تقول أرونداتي إنّ عدداً كبيراً من المنظمات غير الحكومية ما هي إلَّا أدوات تستخدمها الحكومات الغربية والبنك الدولي والأمم المتحدة وبعض الشركات المتعددة الجنسيات لتحييد حركات مقاومة النيوليبرالية. كما أجرت حواراً مطوَّلاً مع إدوارد سنودن، كَشَفَا فيه عمّا يتهدَّد الحياة الخاصة للناس والحياة العامة للساسة من طرف أجهزة التجسّس الخاضعة للإدارة الأميركية في كل أنحاء العالم. أما بخصوص موقفها من فلسطين، فننشر هنا مقتطفاً يلخّص نظرتها الشاملة إلى الصراع (راجع الكادر).

* ندوة أرونداتي روي: س: 16:00 مساء اليوم ـــــ قاعة «باسيل أنطوان مغرديش للمؤتمرات» ــ الجامعة الأميركية في بيروت



الكولونيالية وحَيْوَنَة الفلسطينيينَ
إنّ لِأحداث 11 سبتمبر أصداءً مأساوية مماثِلة في الشرق الأوسط. في 11 أيلول (سبتمبر) 1922، أعلنت بريطانيا العظمى — متجاهِلة الاحتجاجات العربية — بِجيشها المحتشِد على أبواب غزة، أن فلسطين أصبحت تحت الانتداب. وهو استمرار منطقي لوعد بلفور عام 1917، الذي وعد الصهاينة الأوروبيين بـ «وطن قومي للشعب اليهودي». في ذلك الحين، كانت الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس قط، تنتزع الأراضي من أصحابِها وتوزّعها بسخاء كما يوزع الأطفال الأشقياء في مدة الاستراحة كريات الزجاج على أقرانهم من أجل اللَّعِب. وبعد عامين من إعلانه الشهير، أعلن اللورد بلفور، وزير الخارجية البريطانية: «لا ننوي أن نتحمل عناء استشارة السَّاكِنة الحالية للبلاد.. الصهيونية، سواء كانت جيدة أو سيئة، سواء كانت مع أو ضد، متجذرةٌ في تقليد قديم جداً، في الاحتياجات الحالية وفي آمال العالم من أجلِ المستقبل، وأهميتها أعمق بكثير من رغبات وأحكام مسبقة لسبعمائة ألف عربي يعيشون اليوم على هذه الأرض المحمَّلة بالتاريخ».
بأيِّ بُرودٍ أصدرت السلطة الإمبراطورية مرسوماً بكون بعض الاحتياجات عميقة، وبعضها الآخر ليس كذلك! وكم كانت متهورةً في تقطيع أوصال الحضارات القديمة بهذه الطريقة! إن فلسطين وكشمير هديةُ بريطانيا الإمبراطورية المسمومة للعالَم الحديث. كلاهما خطَّا صَدْعاً في الصراعات الدولية المشتعلة اليوم.
في عام 1937، قال ونستون تشرشل عن فلسطين: «لا أوافق على أنَّ للكلب حقاً غير قابل للتصرف في بيته حيثُ يأكل وينام، حتى لو عاش فيه لمدة طويلة جداً. أنا لا أعترف بهذا الحق. ولهذا السبب لا أدرك، على سبيل المثال، الضرر الكبير الذي لحق بالهنود الأميركيين أو السكان الأصليين الأستراليين. لن أقول إنه كان على هذه الشعوب أن تعاني من أي ضرر لمجرد أن عرقاً أقوى وأكثر تفوقاً، أو عرقاً أكثر خبرة، إذا جاز التعبير، جاء ليحل محلهم». مثل هذه التعليقات هي التي وَجَّهَتْ موقف إسرائيل تجاه الفلسطينيين. في عام 1969، قالت غولدا مائير: «الفلسطينيون غير موجودين». وأعلن خليفتها رئيس الوزراء ليفي إشكول: «أين الفلسطينيين؟ عندما وصلت إلى هنا [في فلسطين]، كان هناك 250 ألف شخص غير يهودي، معظمهم من العرب والبدو. لقد كانت صحراء، بلداً غير متطور تماماً. لقد كانت لا شيء». وصف رئيس الوزراء مناحيم بيغن الفلسطينيين بأنهم «حيوانات ذات قدمين». ووصفهم رئيس الوزراء إسحق شامير بـ «الجراد» الذي يجب سحقه. هذه مفردات رؤساء الدولة، لا مفردات المواطنين العاديين.
لقد تتابعت الثورات والحروب والانتفاضات على مرّ العقود. وفقد آلاف الأشخاص حياتهم هناك. وتم التوقيع على الاتفاقيات والمعاهدات، وإعلان وقف إطلاق النار وانتهاكه. لكن الدم يستمر في التدفق. ولا تزال فلسطين محتلة بشكل غير قانوني (...)
لقد كانت الولايات المتحدة دائماً الحليف السياسي والعسكري الأكثر ولاءً لإسرائيل. وقد عارضت واشنطن، مثل إسرائيل، جميع قرارات الأمم المتحدة تقريباً التي تقترح حلاً سلمياً وعادلاً للصراع. لقد دعمت عملياً كل حرب شنتها إسرائيل، والتي عندما تهاجم فلسطين، فإنها تفعل ذلك بالصواريخ الأميركية. وفي كل عام، تتلقى إسرائيل عدة مليارات من الدولارات من الولايات المتحدة. وإضافة إلى الثلاثة مليارات دولار المخصصة رسمياً للتمويل العسكري الأجنبي، تزوّد واشنطن إسرائيل بالمساعدات الاقتصادية والأسلحة والقروض ونقل التكنولوجيا. (...) 11 سبتمبر 1922، 11 سبتمبر 2002: ثمانون عاماً، ثمانون عاماً من النضال، إنه وقت طويل، إنه وقت طويل جداً. هل هناك نصيحة يمكن للعالم أن يقدمها إلى الشعب الفلسطيني؟ بارقة أمل؟ هل يجب أن يقبلوا بالفتات القليل الذي نحن على استعداد لرميه لهم، وهل يجب عليهم أن يتصرفوا مثل الجنادب أو الحيوانات ذات الرجلين التي شُبِّهوا بها؟ هل عليهم أن يتبعوا نصيحة غولدا مائير بمحاولة عدم الوجود؟

* مقتطَف مِن كتابها «قَلْبِيَ الْفَتَّانُ» (الطبعة الأصلية الإنكليزية، 2019)