غزة | انقلبت حياة إسحاق مشتهى رأساً على عقب، منذ الشهر الثاني من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. الشاب الذي كان يهوى ركوب الدراجة النارية، بدأ يعاني فجأة من آلام شديدة في معدته، وانتفاخات في بطنه، جعلت قواه الجسدية تخور. انتقل والده من مستشفى إلى آخر بحثاً عن علاج لنجله، ولكن من دون فائدة؛ إذ تعج المستشفيات التي لحق بها الدمار، بجرحى الحرب، فيما عدد كبير من الأطباء اضطرّوا إلى الانتقال إلى أماكن أكثر أمناً، حفاظاً على أرواحهم وأرواح أسرهم. وعليه، قرر والد إسحاق خوض المغامرة من أجل إنقاذ ابنه، فكان أن نزح من حي الشجاعية شرق مدينة غزة إلى «مستشفى شهداء الأقصى» في دير البلح وسط القطاع. لكن هناك أيضاً، لم يتمكّن الأطباء من تشخيص حالة إسحاق على الفور، حيث توقع بعضهم وجود مشكلة في الكبد أو الأمعاء أو التهابات في القولون، فيما كانت معاناة الشاب تشتد بعدما فقد نصف وزنه وبانت عظامه.يقول والد إسحاق، في حديثه إلى «الأخبار»، إن «مشهد إسحاق على فراش المرض كسر ظهري. كنت أتمنى رؤيته في البيت قبل الحرب ولكنه كان مشغولاً وكثير الحركة والنشاط». ويتابع الوالد بحرقة: «اليوم لم يعد إسحاق هو ذاك الشاب النشيط، بل بات عاجزاً عن الحركة والأكل بشكل كامل». وبعد محاولات كثيرة بذلها الأب للتعرف إلى مرض نجله الذي فقد 35 كيلوغراماً من وزنه، وصل إلى التشخيص الدقيق الذي كان بمنزلة الصدمة الكبرى له. إذ أوضحت له الطبيبة أن «ابنك يعاني من مرض يسمى كرونز، وهو مرض مزمن يهاجم الأمعاء من دون توقف ويحتاج إلى علاج بيولوجي خارج قطاع غزة»، مشيرة إلى «حاجته إلى عملية جراحية عاجلة في الأمعاء لإنقاذ حياته قبل فوات الأوان»، ولكن ذلك غير ممكن نظراً إلى إغلاق معبر رفح أمام سفر الحالات الخطيرة. وعن أسباب المرض يقول والد إسحاق إن «السبب الرئيسي هو المعلبات الغذائية الإنسانية التي أغرقت قطاع غزة في الشهور الأولى من الحرب وسوء التغذية».
احتلال إسرائيل لمعبر رفح حال دون خروج الآلاف من المرضى لتلقي العلاج اللازم وإنقاذ حياتهم


والواقع أن إسحاق ليس إلا واحداً من بين عشرات الحالات المرضية التي أفقدت أصحابها الكثير من أوزانهم. في زاوية أخرى من «شهداء الأقصى»، يرقد الشاب عبد المجيد السباخي، ذو العشرين عاماً، مراقباً مرة جهاز الأوكسجين الذي يلازمه طوال الوقت، ومرات عدة عيون الزوار التي تنظر إلى جسده المنهك، فتنهمر الدموع على وجنتيه، ويردد: «والله منا قادر أحرك جسمي. رحمتك يا رب». وفيما تنخر الآلام عظامه، يرفع الشاب قدميه بصعوبة محاولاً الجلوس؛ ليتكشف حجم المأساة: ساقان هزيلان يستحضران إلى الذهن أجساد الأسرى الأبطال في سجون الاحتلال عندما يضربون عن الطعام.
يعاني السباخي أزمة التهابات في الرئتين منذ ولادته، ولكنها تفاقمت بشكل خرج عن سيطرة الأطباء عقب استنشاقه كميات هائلة من غازات الصواريخ الإسرائيلية التي استهدفت منزل جيرانه، قبل نحو شهرين تقريباً. وفيما يعيش في مخيم النصيرات وسط القطاع، واضطرّ أثناء العملية العسكرية الإسرائيلية الإرهابية في النصيرات إلى النزوح مع أهله إلى مدينة رفح، فهو سرعان ما عاد أدراجه لعدم قدرته على التأقلم مع ارتفاع الحرارة والاكتظاظ السكاني. يقول شقيقه أسامة: «عندما استهدف الاحتلال منزل جيراننا، تحول المكان إلى كومة من الدخان المتصاعد والغازات السامة التي استقرت كميات هائلة منها في جسد عبد المجيد قبل أن يتم إنقاذه من تحت الركام». ويتابع: «منذ تلك الحادثة، تغيرت حياة عبد المجيد وبدأ يفقد وزنه بشكل لافت، حيث كان يزن نحو 55 كيلوغراماً، فيما بات اليوم يزن 20 كيلوغراماً فقط وتفاقمت أزمته الصحية»، مشيراً إلى أنه «عندما ولد عبد المجيد كان يعاني من التهابات شديدة في الرئتين، ولكن الأطباء، وبعد محاولات عدة، تمكنوا من السيطرة على المرض وعلاجه».
يمرر أسامة كلتا يديه خلف رأس شقيقه عبد المجيد، محاولاً رفع رأسه بهدوء، قائلاً: «أشعر بالألم لعدم تمكن أخي من إدارة أموره الشخصية، وتزداد آلامي لأن عبد المجيد لم يفقد شهيته، ولكنه لا يستطيع الأكل لعدم قدرته على إزالة جهاز التنفس». وأثناء الحديث، أمال عبد المجيد رأسه على اليسار وأسدل رموشه، فأصيب شقيقه بالخوف، ولكن سرعان ما حرك الأول أنامله محاولاً ترتيب شعره المسدل على عينيه. يقول أسامة: «كل يوم أشعر بالخوف، فهو يحتاج إلى زراعة رئتين بشكل عاجل قبل فوات الأوان»، مستدركاً بأن «زراعة الرئتين لا يمكن أن تتم في قطاع غزة، ولذا، فهو بحاجة ماسة إلى تحويلة خارجية»، إلا أن احتلال إسرائيل لمعبر رفح حال دون خروج الآلاف من المرضى لتلقي العلاج اللازم وإنقاذ حياتهم، ما يعرّضهم للخطر الشديد.