بعد التحسن الكبير في العلاقات التركية - الإسرائيلية، في السنوات القليلة الماضية، شهدت العلاقات بين الطرفين، أزمة ديبلوماسية جديدة سببها الحرب الإسرائيلية على غزة. إذ استدعت تركيا سفيرها في تل أبيب للتشاور في الرابع من تشرين الأول 2023، وتصاعد الخطاب الديبلوماسي بين الجانبين، وذلك بعدما وصف الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، دولة الاحتلال بـ«الإرهابية»، فيما ردّ رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، باتهام تركيا بدعم «حماس». وعلى إثر هذا التصعيد، خرجت أصوات من الجانبين تنادي بالمقاطعة الاقتصادية. ورغم أن الأزمة الديبلوماسية لم تتطور بعد إلى حدّ اتخاذ إجراءات اقتصادية من أي من الجانبين، باستثناء تعليق تركيا، بشكل أحادي، تعاونها في مجال الطاقة، إلا أن وزير التجارة التركي، عمر بولاط، صرّح بعد نحو شهر على عملية «طوفان الأقصى»، أن حجم التجارة بين الطرفين انخفض بأكثر من 50%، رابطاً بين هذا الانخفاض وما وصفه «طلبات التجار والمستهلكين». لكن هل انخفاض التبادلات التجارية يرتبط فعلاً بالحرب الإسرائيلية على غزة؟ وأي مستقبل ينتظر العلاقات الاقتصادية في ظل الأزمة الديبلوماسية الحالية؟
سنوات القطيعة الست
بدأت العلاقات التركية - الإسرائيلية تشهد محطات من التوتر الديبلوماسي منذ العدوان الإسرائيلي على غزة في كانون الأول 2008 (عملية الرصاص المصبوب)، وما تلاه من مشادة كلامية بين الرئيس التركي ورئيس دولة العدو في «مؤتمر دافوس»، في كانون الثاني 2009، معروفة بحادثة «الدقيقة الواحدة». ثم جاءت الأزمة الديبلوماسية الأسوأ في تاريخ العلاقات بين الطرفين في 31 أيار 2010، على خلفية اعتداء قوات الاحتلال الإسرائيلي على سفينة الإغاثة التركية إلى غزة «مافي مرمرة»، والذي راح ضحيته 10 من المواطنين الأتراك والعشرات من الجرحى، ما أسفر عن قطيعة استمرت لست سنوات (2010- 2016). إلا أن هذه القطيعة لم تشمل الجانب الاقتصادي للعلاقات بين الطرفين، إذ لم يتخذ الجانبان أي إجراء على صعيد الاتفاقيات الاقتصادية بينهما، والتي يأتي على رأسها «اتفاقية التجارة الحرّة» الموقعة في 1996، بل كانت العلاقات الاقتصادية تسير بمسار لا يعكس القطيعة الديبلوماسية، حيث تطوّر حجم التبادل التجاري بصورة لافتة، إذ ارتفع بين عامي 2010 و2016 بنحو 30%، أي بنحو مليار دولار.
على أن تطور التبادلات التجارية لم يقتصر على الارتفاع في حجمها فحسب، بل من حيث أهميتها أيضاً، إذ تعزّز حضور الصادرات التركية من الفولاذ والصلب إلى إسرائيل حتى باتت تشكل الأخيرة نحو 60% من إجمالي مستورداتها، وهي المواد التي تعد أساسية للصناعة العسكرية الإسرائيلية. وفي المقابل، باتت تركيا تشكل سوقاً مهمةً لصادرات إسرائيل من النفط المُكرر الذي يشكّل أكثر من نصف صادرات دولة الاحتلال إلى تركيا، فضلاً عن صادراتها من المحركات والمعدات العالية التقنية إلى تركيا. ورغم التوقف المعلن للتعاون العسكري التركي - الإسرائيلي، إلا أن تركيا اشترت في عام 2013 معدات عسكرية من شركة إسرائيلية بقيمة 100 مليون دولار.
تقلبات حجم الصادرات والمستوردات بين تركيا وإسرائيل غير مرتبطة بالحرب على غزة، بل هي محكومة بتقلبات عوامل اقتصادية


الرهان على علاقات إستراتيجية
انتهت القطيعة الديبلوماسية التركية - الإسرائيلية باتفاق لتطبيع العلاقات بين الطرفين في حزيران 2016، كان مرهوناً بتنفيذ إسرائيل ثلاثة شروط، هي: الاعتذار العلني لتركيا عن حادثة «مافي مرمرة»، ودفع التعويضات لأسر الضحايا والجرحى، ورفع الحصار عن قطاع غزة. نفذت إسرائيل الشرطين الأول والثاني، إلا أنها لم تنفّذ الشرط الثالث، حيث ظلّ القطاع محاصراً، فيما عكس اتفاق التطبيع واستمرار مسار العلاقات الاقتصادية التركية - الإسرائيلية، بالنمو، الكيفية التي تتعامل بها تركيا مع القضية الفلسطينية، لجهة استخدامها الوظيفي لها، بما يشمل تحسين صورتها الخارجية أمام شعوب المنطقة، بالإضافة إلى الأغراض الانتخابية في الداخل؛ فإردوغان الذي استخدم القضية الفلسطينية في حملته الانتخابية عام 2018، صمت عنها في انتخابات 2022، رغم تفاقم الاعتداءات الإسرائيلية في الضفة والقطاع آنذاك.
أيضاً، تراهن تركيا على علاقات إستراتيجية مع إسرائيل؛ فمع زيارة رئيس دولة الاحتلال، إسحاق هرتسوغ، إلى أنقرة في آذار 2022، توج الطرفان، بعد أشهر، مسار التطبيع القائم منذ 2016، بإعلان عودة العلاقات الديبلوماسية كاملة بينهما، كما استؤنف التعاون الأمني والاستخباراتي. وفي أيلول الماضي، أعلن إردوغان نية بلاده البدء بالتنقيب عن الطاقة مع الجانب الإسرائيلي، وعن خططهما لرفع حجم التبادلات التجارية البينية إلى 15 مليار دولار، على الأقل في المرحلة الأولى، علماً أن حجم هذه التبادلات وصل إلى نحو 9.5 مليارات دولار في عام 2022، كما وصل عدد السياح الإسرائيليين إلى تركيا إلى أكثر من 840 ألف سائح في العام نفسه.

أزمة مؤقتة
في الواقع، تكشف إحصاءات التجارة الخارجية بين تركيا وإسرائيل أن التراجع ليس محصوراً بالربع الأخير، بل هو ينسحب على السنة بكاملها. ففي الربع الأخير من السنة الماضية، تبيّن أن حجم التجارة البينية انخفض بنحو 20% مقارنةً بالربع الثالث من العام نفسه، وقد يعود ذلك إلى التغير في «طلبات التجارة والمستهلكين»، أي إنه ناتج من ميل المستهلكين والتجار الأتراك إلى عدم التعامل مع إسرائيل، وفقاً لتصريح بولاط. لكن هذا الأمر لا يفسّر الانخفاض في حجم التبادلات التجارية التركية - الإسرائيلية بأكثر من 20% في الأشهر التي سبقت «طوفان الأقصى» من عام 2023 مقارنةً بعام 2022. وعلى هذه الخلفية، لا يمكن أن نعزو انخفاض حجم التجارة بين الطرفين إلى أسباب متعلقة بحرب إسرائيل على غزة، بل يمكن الاستنتاج من هذه الأرقام، بأن تقلبات حجم الصادرات والمستوردات بين تركيا وإسرائيل غير مرتبطة بالحرب - على الأقل في عام 2023 -، بل هي محكومة بتقلبات عوامل اقتصادية.
وبالنتيجة، تتضح الصورة أكثر على قاعدة أن إردوغان يستفيد في الأزمة الحالية من علو النبرة الدولية حيال إسرائيل، بما فيها خطاب عدد من الأطراف والدول الأوروبية، والتي تأتي على رأسها بلجيكيا وإسبانيا. كما يركز إردوغان في خطاباته الهجومية على نتنياهو الذي من المرجح أنه لن يبقى على رأس سلطة الاحتلال بعد انتهاء الحرب في غزة، بل ربما قبل ذلك. وبالتالي، سيكون إردوغان قادراً على استئناف علاقته مع إسرائيل وفقاً لمسارها السابق، ولا سيما أن الخطوات الفعلية التي اتخذها لم تتجاوز استدعاء السفير التركي في تل أبيب للتشاور، وهذا ما يجعل من الأزمة الحالية أزمة مؤقتة تقتصر على الصراع الخطابي، فيما سيبقى التعاون الإستراتيجي التركي - الإسرائيلي قائماً من دون تغيير.