تُنسب «نظريات المؤامرة» عادة إلى خصوم الولايات المتحدة، ويقتنع بهكذا زعم من تنقصه المعلومات والمعطيات عن تاريخ السياسة الخارجية الأميركية بشكل خاص والغربية بشكل عام. لم تتردّد واشنطن وغالبية حلفائها في تقديم حركات التحرر الوطني في بلدان ما سُمي بالعالم الثالث، على أنها مجرد أدوات للاتحاد السوفياتي، وجرى التعامل معها على ذلك الأساس، رغم أن بعضها حاول محاورة الولايات المتحدة لبناء علاقات ندّية معها وفشل في ذلك. الأمثلة كثيرة، من مصر جمال عبد الناصر و«تيار القومية العربية»، والثورة الجزائرية وحكومة محمد مصدق في إيران، وحتى كوبا بعد انتصار الثورة على نظام باتيستا. سعى جميع هؤلاء إلى التوصل على الأقل إلى تفاهمات مع واشنطن تحول دون الصراع المفتوح معها، لكنّ رفضهم الانصياع لأجندتها الاستراتيجية أدّى إلى مثل هذا الصراع.
المزاعم حول دور روسي مباشر أو غير مباشر في مساعدة المقاومين الفلسطينيين لا تستند إلى أدنى دليل
بعد عملية «طوفان الأقصى»، بدأت تتبلور في أوساط الأجهزة الأمنية والعسكرية الأميركية والأوروبية «نظرية مؤامرة» جديدة حيالها، مفادها أن روسيا في الحد الأدنى ساعدت المقاومة الفلسطينية على تنفيذها، إن لم تكن تقف خلفها تماماً، لأنها، وفقاً للتهويمات المشار إليها، المستفيد الأول من فتح جبهة جديدة في شرق المتوسط ضد الولايات المتحدة وحلفائها، بعد تلك المفتوحة في أوكرانيا. وقد سمعنا أصداءً لهذه «النظرية» في بعض وسائل الإعلام اللبنانية ولدى عدد من المحلّلين. في الحقيقة، وبعد عقدين من الاستخفاف بروسيا، فوجئ «الغرب الجماعي» بقدرتها على خوض مجابهة ناجحة على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية، فانقلب الاستخفاف إلى تهويل بالخطر الروسي الداهم على الغرب ومناطق نفوذه ومصالحه. ووفقاً لنظرية المؤامرة الجديدة، فإن موسكو أحسنت استغلال الكثير من الأزمات التي عصفت ببلدان في المنطقة لـ«تتسلل» إليها وتتحوّل إلى لاعب وازن فيها. المثل الأول الذي يُقدّم هو سوريا، حيث شكّل تدخل روسيا العسكري في أواخر 2015، رافعة لدور سياسي محوري لها في البلد المذكور وعلى مستوى الإقليم. الكلام نفسه يُقال حول التدخل العسكري الروسي في ليبيا وتوظيفه لصالح زيادة النفوذ في المتوسط والسعي لتحويل ذلك البلد إلى منصة لتدخلات جديدة في أفريقيا جنوب الصحراء. أما بالنسبة إلى التطورات التي شهدتها بلدان منطقة الساحل، أي الانقلابات التي وقعت في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، فإن «يد موسكو» هي من يقف خلفها برأي أصحاب هذه النظرية الفذّة.
المنطق نفسه ينسحب على معركة «طوفان الأقصى»، التي اكتسبت منذ ساعاتها الأولى أبعاداً إقليمية ودولية، لأن الغرب الجماعي هرع بحاملات طائراته وغواصاته لنجدة إسرائيل! ما يتناساه هؤلاء هو أن «التورط» في هذه المعركة، ومن ثم في غيرها في اليمن وفي سوريا والعراق، بدلاً من التركيز الحصري على الحرب في أوكرانيا، هو قرار قيادات الغرب. ليست روسيا من يُلام على التبعات والأكلاف المترتّبة على مثل هذا الأمر. إضافة إلى ذلك، فإن المزاعم حول دور روسي مباشر أو غير مباشر في مساعدة المقاومين الفلسطينيين لا تستند إلى أدنى دليل أو قرينة. من البديهي أن روسيا، وجميع خصوم وأعداء الولايات المتحدة، يستفيدون من تورطها في حروب ومواجهات تستنزفها عسكرياً واقتصادياً وتزيد من إضعاف صدقية مزاعمها عن «القيم» و«الحرية» وغيرها من فقاعات الصابون الأيديولوجية. روسيا والصين، على المستوى الإستراتيجي، كانتا في مقدّمة المستفيدين من عمليات 11 أيلول عام 2001 وما تلاها من غرق أميركي في وحول الحروب على «الإرهاب». هذه الحروب كانت بمثابة الكارثة الإستراتيجية بالنسبة إلى واشنطن، لكن هل يتجرّأ أحد على اتهام من خطّط لخوضها وأدارها، أي المحافظين الجدد وأقطاب إدارة بوش الابن، من مثل ديك تشيني ودونالد رامسفيلد، بالعمالة لموسكو وبكين؟
الثابت حتى الآن أنه كلما ازداد تورّط الإمبراطورية الهرمة في حروب ونزاعات جديدة، في سياق الحرب العالمية المذكور سابقاً، فإن هذا الأمر يخدم مصالح أعدائها ويثلج صدورهم. ذلك ينطبق على تورّطها في منطقتنا، وربما في مناطق أخرى من المعمورة مستقبلاً.