الانكباب الاستشراقيّ على تحديد الفوارق «الجوهرانيّة» بين حضارَتي الشرق والغرب لم ينسحب على مسائل الثقافة والفكر فحسب، بل طاولَ كذلك التقاليد العسكريّة بين شطرَي الكرة الأرضية. فدارسو فنون الحرب يلاحظون، مثلاً، أن العقيدة العسكريّة العربيّة-الإسلاميّة تميل بشكلٍ عامٍ إلى تفضيل أسلوب المناوشات التي تقوم على الحركة الخفيفة والمناورة السريعة، وذلك على حساب التدريع الثقيل والتحصين المحكم؛ أسلوب «ميليشيات» إن شئت - ولا عَيب في هذه التسمية بالمناسبة.كان الصليبيّون، في المقابل، لا يرتاحون لِقتالٍ لا يكتمل فيه عتاد الجيش تدريعاً وتسليحاً. وهم في ذلك ربّما لم يغادروا التقاليد البيزنطيّة السابقة عليهم والتي وصفَ المتنبّي بعضها في قصيدة الحدَث الحمراء المشهورة. كما أنّهم اعتمدوا كثيراً على آلات القذف القديمة التي كانت تسمح بدكّ حصون المدن المحاصرة من بعيد وإجبارها على الاستسلام.

(رواد الأمين)

أمّا جيوش الأيوبيّين والمماليك التي واجهتهم، فقد اعتمدت بشكلٍ أساسيّ على سرعة الخيّالة وتحرّكها في فرق صغيرة نسبيّاً وغير منظّمة تنظيماً ظاهراً، وعلى كتائب متفرّقة من رماة السهام كانت تتمركز في مواضع تكتيكيّة مُختارَة في ميدان المعركة وتُحدث خروقات موضعيّة في جيش العدو. كان ذلك نسخة مبكّرةً من الحرب الخاطفة، بليتز-كريغ، باستخدام السيف والترس.
ولكنّ المراجعات التاريخيّة الحديثة، المدعّمة بالشواهد الأثريّة، تشير إلى أنّ هذه الصورة تبقى منقوصةً ولا تفي العقيدة العسكريّة العربيّة-الإسلاميّة حقّها.
ومع اكتشاف المخطوطات تأكّد هذا الزَّعم، فيظهر أنّ المماليك، مثلاً، كان لديهم تعويل كبير على نسختهم الخاصّة من «الأسلحة الثقيلة»، ولكنّهم لم يستعملوها بصورة مطّردة في كلّ حروبهم، بل حيث تقتضي الحاجة فقط. وعماد هذا التسليح المِنجنيقات التي يعود تاريخها، على الأغلب، إلى الجيوش الساسانيّة الفارسيّة.
وعلى بساطة التصميم الأوّليّ، إلّا أنّ المماليك استطاعوا الوصول بصناعة المنجنيق إلى أعلى مستوياتها، إنْ مِن حيث استعمال الموادّ التي يتركّب منها، أو هندسة الآلة لتكون محكمة ومتينة وفعّالة، أو سهولة نقلها وتحريكها وتربيضها وإعدادها للرمي، أو طريقة دمجها بالفرق العسكريّة الباقية وتنسيق قذائفها، أو إحكام الرمي بواسطتها في مختلف المديات والارتفاعات، أو استعمال المقذوفات المختلفة – الخارقة للتحصينات، أو الحارقة بأنواع «النفط» الخاصّة، أو السامّة باستخدام تركيبات كيميائيّة معيّنة أو عن طريق وضع الأفاعي والعقارب في المقذوفات، أو الدخانيّة التي تُعمي عيون العدو، أو المضيئة التي تسهّل الإغارات الليليّة – أو كيفية التوقّي من منجنيقات العدو والمناورة حول مرابضها، إلى غير ذلك من شؤون رمايتها وتعهّدها.
ويبقى أنّ الإنجاز الأهمّ في هذا المضمار كان القدرة على «تَدوين» كلّ تلك المعارف في كتب وكرّاسات عمليّة، وتزويدها بالتصميمات والرسوم البيانيّة والتفاصيل الفنّيّة للمقاسات والأبعاد الدقيقة. وبالمناسبة، يزعم المستشرقون أنّ المسلمين لم يستعملوا التصاوير والرسوم كوسائل إيضاح تربويّة، ولكنّ المزيد من الكشف عن المخطوطات يفنّد هذا الزعم ويردّه. وقد اعتنى المستشرقون القدماء كثيراً بالكتب والمؤلّفات التي كانت مخصّصةً للحديث عن صناعة الأقواس والسهام والتي كانت قد تطوّرت بشكل كبير في مصر المملوكيّة.
وقد سمحت عمليّة التدوين تلك في تعميم هذه المعرفة على جيوشٍ كبيرةٍ نسبيّاً كانت تتوزّع من مصر إلى بلاد الشام وصولاً إلى حدود كردستان والعراق وتركيا. ثمّ تحويل ذلك إلى تقليد كِتابيّ يتمّ تنقيحه ومراجعته باستمرار.
ولم يكن الغرض من هذه التآليف عسكريّاً فحسب، بل اشتمل، كما هي العادة التي جرت عليها الصنعة الثقافية في ذلك الزمن، على مطالب أدَبيّة، كتبيان الأحكام الشرعيّة الخاصّة بالحرب، أو ذكر بعض الأشعار التي قيلت في مديح آلة السلاح، وغير ذلك.
وككلّ الكتب العربيّة ذات العناوين المسجّعة، فإنّنا نقرأ مثلاً عن مؤلّفات مثل «بُغية المرام في رَمي السهام»، و«مُستند الأجناد في آلات الجهاد»، و«تحفة المجاهدين في العمل بالميادين» (فَليَفرَح غسّان بن جدّو)، و«تفريج الكروب في تدبير الحُروب» (والكتاب منشور)، و«السَّماح في أخبار الرماح»، و«إسبال الذيل في فضائل الخيل»، ولعلّ أطرفها على الإطلاق، كتاب «الأنيق في المِنجَنيق» (منشور كذلك).
لَكَ أن تتخيّل أنّ الكاتب حين اختارَ العنوان فكَّر بِسِمَةٍ معيّنة ترتبط بآلة الحرب تلك؛ ثمّة خِفّةٌ في الإغارة مثلاً، وطمأنينةٌ في تدبير الحرب على وجهٍ يجلب النصر، وأناقةٌ تصاحب عمليّة الرماية تراها حتّى اليوم في رمايات المدفعيّة. وحسبك من الأناقة ذلك المُتَعَطِّف بالعِزّ في غزّة وهو يرمي الدبّابة وكأنّه في جولة صيد.
الحَدَث الجاري في منطقتنا «لا يعنيني» من زاوية أثره المباشر فحسب، بل من حيث إنّه مؤشّر إلى صعود شكلٍ مختلفٍ من الحياة في هذا الجزء من المعمورة


ومع أن فائدة هذه الكتب اليوم لا تعدو الإمتاع والمؤانسة، لكنّها تبقى شاهداً إضافيّاً على أنّ تلك الثقافة التي ننتمي إليها كانت ثقافةً عقلانيّةً في كلّ تفاصيلها، وذلك على العكس من الترّهات السمجة التي نكرّرها عن أنفسنا بأنّنا مجرّد عرب عاطفيّين. أسلافنا كانوا أقواماً يخطّطون لمشاريع وأهداف، ولهذه الغايات كانوا يفعلون ما على البشر القيام به، من ضبط وإحكام وتدوين وتناقل للمعرفة والخبرة. وعلى العموم، فإنّه من الجيّد أن ترى نفسك جزءاً من تقليد ليس فيه عسكريّون سخفاء وقميئون ممّن يحتلّون الشاشات اليوم.
الحَدَث الجاري في منطقتنا «لا يعنيني» من زاوية أثره المباشر فحسب، بل من حيث إنّه مؤشّر إلى صعود شكلٍ مختلفٍ من الحياة في هذا الجزء من المعمورة، وقد صنعه «بشر مختلفون» حقّاً؛ وفي هذه فقد صدق المستشرقون في أنّ هؤلاء في جوهرهم شيء آخر عن السائد والمألوف الذي أراده الاستعمار بحداثويّته ومادّيّته. ويروق لي أن أدعو ذلك استئنافاً للقرن الثاني عشر الهجري/الثامن عشر الميلاديّ، أي من حيث توقّفت الصيرورة التاريخيّة السابقة لبلادنا وحَلّ عليها المدّ الأوروبيّ قسراً. ولكنّ هذه حكاية لوقتٍ آخر.
أمّا الذين ينالون من المقاومين اليوم ويحاسبونهم ويتّهمونهم ويعيّرونهم بهتاناً بالخذلان، فهم لا يعبّرون عن ظلمٍ وتطاولٍ وسقوط أخلاقيّ فحسب، بل عن قصور كاملٍ في فهم الفعل المقاوِم. وأنا لا أدّعي الفهم، ولكنّي أسأل المتحمّس العالي الصراخ عمّا كان سيفعله هو لو كان في جبهة من هذه الجبهات؟
كيف تأتي بكلّ هذا السلاح إلى بلدٍ محاصرٍ كاليمن، ثم كيف تعلِّم تلك الألوف كيف تستعمل آلات الحرب، وكيف تنتجها، وكيف تغلق بها مضيقاً بحريّاً دوليّاً؟ ولا أعني إيران هنا، بل أهل اليمن أنفسهم. وكيف تقاتل على جبهة طولها مئة وعشرون كيلومتراً على كتف الجليل، تُشعلها بين يوم وليلة، من دون سابق إنذار أو تحضير عمليّاتيّ طويل الأمَد؟ ثمّ كيف تحوّل هذا الجهد كلّه إلى أرقٍ يوميّ للدبلوماسيّة الغربيّة وصراع داخليّ في حكومة العدو؟ هل يظنّ المغرّد العربيّ أنّ هؤلاء صنعتهم جامعات الغرب وكلّياته العسكرية العريقة التي يتخرّج منها أمراؤه وملوكه؟
وفي الحقيقة، فإنّه ما مِن فائدة، بعد أربعة أشهر من القتال المستمرّ، من مناقشة المُخلَّفين من الأعراب. هم لم يريدوا القتال يوماً، وقد كَرِهَ المَلكوت والناسوت انبعاثهم، فقعدوا مع القاعدين والقاعدات في أمّة!
المهمّ والمؤثّر في حياتنا، اليوم وغداً، أنّ ثمّة عقلاً واحداً يسري من طهران إلى غزّة يرى نفسه مقتدراً على العدو وغير منكفئ في وعيه عن المجابهة، لا بل إنّه يرى أنّ تمام العقل يكمن في اختيار هذه المعركة. ثمّة روح واحدةٌ تخفق من الضاحية إلى صعدة تأنس من نفسها القوّة والجَلَد، وتُصابِر عدوّها في العضّ على الجراح، وتكتم الجرح حِقداً عليه للمواجهة المقبلة. ثمّة دم واحدٌ من بغداد إلى الجولان يَنثَعِبُ يُتماً وثُكلاً في آلافٍ من بيوتنا التي أذن الله أن تُرفَع، وسيولَد منها جيلٌ أَمَرُّ على الموت من سابقه.
ولأنّ شكل الحياة هذا لا يزال في طَور العسكرة، وستتلوه أطوار أخرى، فإنّه ليس على المقتدر اليوم سوى أن يستلّ في أقرب فرصة ممكنة كتاب «السهل المعاوِن في تربيض الهاوِن»، أو «رعاية الشَّفَق في رماية الفَلَق». أو فلينظر شيئاً من كتاب «شدّ الأرفاق في حفر الأنفاق»، أو فليستأنس بمطالعة رسالة «شذى الرياحين في قواذف الياسين». وإن غالَبَه الكَرى فَليَقُم الليل ليطالِع كتاب «إدامة السُّهاد في ذكر فضائل الكورنيت والغراد».

* باحث لبناني