تواجه الولايات المتحدة معضلة في كيفية مواجهة التحدّي الذي يمثّله اليمن: فهي من ناحية، لا تريد توسعة الحرب؛ ومن ناحية أخرى، ترى نفسها مسؤولة عن رفع الحصار البحري عن إسرائيل، فيما كلّ النقاشات الدائرة منذ شهرين تدور حول تنفيذ هذين التوجّهين بأقلّ الأضرار الممكنة. وجاء قرار اليمن بالمواجهة، مهما علت التكلفة، ليصعّب المهمة على صاحب القرار الأميركي، بعدما نجح في إحكام الحصار على إسرائيل، رغم الحماية الأميركية للسفن المتّجهة إلى الموانئ الإسرائيلية. غير أن ثمّة إشكاليتين أُخريين تواجهان واشنطن، بالتحديد في البحر الأحمر وباب المندب: الأولى، تراجع قوة الردع الأميركية، والذي أثار انتقاد العديد من كبار الضباط الأميركيين المتقاعدين ذوي الخبرة في منطقة الخليج، والذين يقولون إنه من الضروري إعادة تأسيس الردع الأميركي. وفيما ذهب العديد من الضباط في البنتاغون إلى تبنّي الرأي المذكور، اعتبرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن رفض اليمن التراجع، يُظهر انخفاض فاعلية الردع الأميركي، إضافة إلى كون واشنطن غير معنيّة بالتصعيد في المنطقة. كذلك، يقرّ المسؤولون الغربيون بأن مفهوم الردع الممارَس من قِبل الولايات المتحدة لا ينطبق على «أنصار الله»، وهذا ما أكّده أيضاً المسؤول الإسرائيلي السابق والباحث في «معهد دراسات الأمن القومي» في جامعة تل أبيب، يوئيل غوزانسكي، الذي رأى أن المشكلة مع «أنصار الله» هي أنه من الصعب جدّاً ردعهم، لافتاً إلى أن سنوات الحرب على اليمن شحذت قدرات الحركة وشجاعتها الواضحة.
أما الإشكالية الثانية، فهي استعادة اليمن دوره الريادي بعد أن وظّف موقعه الجغرافي وصار جزءاً رئيساً من محور المقاومة، وأصبح لاعباً في جغرافيا معقّدة على مستوى أوراسيا. فإلى جانب «مبادرة الحزام والطريق» الصينية، وممرّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب بقيادة الهند وإيران وروسيا، وطريق بحر الشمال الجديد لروسيا، يشمل ذلك الدور أيضاً السيطرة على نقاط التفتيش الاستراتيجية حول البحر الأبيض المتوسط وشبه الجزيرة العربية. وعليه، من المؤكد أن تفعيل اليمن قدراته سيؤثر في صراع واشنطن مع أقطاب عالميين لهم نفوذ ومصالح في المنطقة وأبرزهم الصين وروسيا.
وعلى رغم التهديدات التي أُطلقت من قبل مسؤولين أميركيين وبريطانيين بتوجيه ضربات إلى البحرية اليمنية، لا يبدو أن قرار الحرب وُضِع على الطاولة. وفي هذا السياق، وضعت واشنطن اعتداءها على ثلاثة زوارق يمنية نهاية الأسبوع الماضي، في إطار ما سمّته «الدفاع عن النفس». كما أن الولايات المتحدة تدرك أن العدوان على قطاع غزة، أثار غضباً في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ودفع «أنصار الله» إلى دائرة الضوء غير المتوقّعة، وأن شروع الحركة في الهجمات البحرية، زاد من شعبيتها في جميع أنحاء المنطقة؛ ولذا، تحرص الإدارة الأميركية على أن لا تكون وحيدة في مواجهة صنعاء، وهو ما دفعها إلى تشكيل تحالف «حارس الازدهار». لكن حادثة ضرب الزوارق الثلاثة وضعت، وفقاً لمسؤولين في إدارة جو بايدن، واشنطن أمام خيار صعب، إذ صار يتعين عليها أن تقرّر ما إذا ما كانت ستهاجم اليمن ومنشآته البحرية أم أنها ستنتظر ردة فعله، وبناء عليها تقرر الخطوة التالية.
الخشية الأميركية من الذهاب إلى الخيار العسكري هي من أن تأتي نتيجته النهائية متوافقةً مع خطّة محور المقاومة


وفي الانتظار، تضغط كلّ من واشنطن ولندن على طهران، وتحمّلانها المسؤولية عن استهداف السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر عبر تزويد «أنصار الله» بمعدات بحرية نوعية. وفي هذا السياق، رفعت الولايات المتحدة السرية عن معلومات استخباراتية تشير إلى أن الحرس الثوري ينسّق الهجمات مع «أنصار الله»، ويؤمن معلومات حول الشحن التجاري الذي يمرّ عبر باب المندب وقناة السويس. وعلى هذه الخلفية، جاء اتصال وزير الخارجية البريطاني، ديفيد كاميرون، مع نظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، لمطالبته باستخدام طهران نفوذها مع «أنصار الله» لوقف هجمات الأخيرة على السفن في البحر الأحمر، فكان الرد الإيراني واضحاً بأن الأَولى أن تضغط بريطانيا على إسرائيل لرفع الحصار عن قطاع غزة ووقف إطلاق النار.
وعلى أيّ حال، يبدو أن واشنطن غير قادرة على اجتراح حلول فورية لمعالجة تحدّي «أنصار الله» في البحر الأحمر، وهذا ما أشارت إليه صحيفة «نيويورك تايمز» بالقول إن الحلّ، بحسب حسابات المجتمع الأمني الأميركي المستهترة، يقوم على استخدام الأساليب المعتادة من مثل القصف أو الإغراء: فإما أن تضطر الولايات المتحدة إلى قصف قواعد «الحوثيّين» على طول الساحل اليمني، ما يؤدي إلى تدمير ترسانتهم من الطائرات المسيّرة والصواريخ، أو أن تعمد إلى إغرائهم. لكن هذا أيضاً تفكير قديم الطراز، فهو يقلّل من أهمية عمق التخطيط الاستراتيجي الذي يجري في المحور الذي تدعمه إيران.
ورغم ذلك، فإن خيار الحرب أو حتى الضربات مستبعد؛ إذ تنقل «نيويورك تايمز» عن مسؤولين عسكريين قولهم إن البيت الأبيض لم يُظهِر أي رغبة في الرد عسكرياً والمخاطرة بتصعيد أوسع. ومع هذا، وضع مسؤولو الدفاع خططاً تفصيلية لضرب قواعد الصواريخ والطائرات من دون طيار في اليمن، وبعض المنشآت التي يُعتقد أن القوارب السريعة فيها. غير أن الخشية الأميركية من الذهاب إلى الخيار المذكور هي من أن تأتي نتيجته النهائية متوافقةً مع خطّة محور المقاومة واليمن بالتحديد. وأصحاب الرأي المتقدّم، يعتبرون أن الضربات العسكرية ضد منشآت عسكرية يمنية، تمتّن العلاقة بين عناصر محور المقاومة وتؤجّج الصراع، وقد تؤدي إلى توسعته.