حاول أحمد الغندور وفريقه في الحلقة الأخيرة من برنامج «الدحيح» تفكيك الرواية الصهيونية بأسلوب مُبسَّط حتى يستطيع المُشاهد أن يحيط بأهم الأحداث التي انتهت في عام 1948 بتأسيس دولة قومية لليهود على أرض فلسطين. ومع ذلك، تنطوي هذه المحاولة على مغامرة كبيرة متعلقة بطريقة الـ«بوب ساينس» أو ما أُسمّيه «المعرفة المُعلَّبة» التي تضغط التاريخ الاجتماعي إلى «حدّوتة» تقدِّم تأريخاً لرواية مبنية على بعض الأحداث المعزولة عن سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية – وبالتالي كامل سياقها التاريخي - انتهت إلى توصيف خاطئ لجوهر الظاهرة الاستعمارية الصهيونية، بالرغم من براعة الإحاطة بأحداثها وإظهارها على نحو مُبسَّط. وليس هناك حاجة إلى أن نخوض في تفاصيل الحلقة، فتفكيك الرواية الصهيونية بأسلوب مبسَّط أمر جيدٌ نسبياً للذين لا يعرفون أي شيء عن تاريخ فلسطين المعاصر، لكنه، ومع ذلك، يظل غير كافٍ ويحيطه مشكلات عديدة.

الاستعمار الصهيوني في فلسطين والوطن العربي ليس ظاهرة تتمحور حول بعض «الأحداث» المتعاقبة في خطٍ طوليّ ومقدَّمة في قالبٍ دراميّ يجذب المُشاهد؛ إنه كيان وظيفيّ في منطقتنا وركيزة أساسية للنظام العالمي الرأسمالي وظيفته الأساسية ليست مساندة عملية تراكم رأس المال على الصعيد العالمي بما تشتمل عليه من نزح الثروات وما يعرف بالتبادل غير المتكافئ وحسب، وليس إدامة بنية الاستعمار والتخلٌّف والتبعية في الوطن العربي بجميع أقطاره وتعزيز الهيمنة الغربية على شعوب الجنوب العالمي عموماً وحسب، وإنما وظيفته الأساسية استعمارية خالصة تتمثل في إحلال كل ما هو صهيوني محل كل ما هو عربيّ، ويُصنَّف في علم الاستعمار المقارن بصفته «استعماراً استيطانياً إحلالياً إبادياً» في إشارة إلى أنه ليس قائماً على طرد الفلسطينيين – والعرب – من الأرض واستيطانها وحسب، وإنما طردهم أيضاً من العمل والاقتصاد، وبالتالي إبادتهم ومحوهم من التاريخ.
ليس من شكٍ في أن المرء لا يستطيع أن يكتفي بمجرد ضغط بنية الاستعمار الصهيوني هذه في «حدوتة» من نوع ما. تكون طريقة الـ«بوب ساينس» مناسبة ورائعة إذا ما قُدِّمت من خلالها مواضيع العلوم الطبيعية (الفيزياء والطب والفلك...إلخ) إلى الأطفال والجمهور غير المتخصص لأنها علوم «متحررة من القِيَمْ»، على حد تعبير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وليست في حاجة إلى أن تُخضَع لما يسميه «التوجيه القيميّ» لأنها تجريبية أصلاً. التوجيه القيميّ هو مجموعة من الإجراءات في العلوم الاجتماعية تقوم بالتحقيق العلميّ الذي يضمن تجنُّب الآراء الشخصية و«التقدير القيميّ» بمعنى الموافقة أو الرفض لأسباب شخصية بحتة ترجع إلى «القِيَمْ» (التي تشتمل بطبيعة الحال على الدين والأيديولوجيا) التي يتبنّاها المرء.
وبصرف النظر عن أن منهجية فيبر تنتهي إلى إخضاع حركة التاريخ – وبالتالي العلوم الاجتماعية – ليس لإرادة الأفراد الحرة وأفعالهم الواعية الموجهة في إطار هذه الحركة، وإنما إلى سلوكيات وظواهر يمكن قياسها تجريبياً بنفس الأدوات أو الأساليب وإلى قوانين جامدة نافذة ومتحققة في كل الزمان والمكان، فإن طريقة الـ«بوب ساينس» إذا ما استُخدِمَت في العلوم الاجتماعية التاريخية (الاقتصاد والاجتماع والسياسة... إلخ) تنتهي إلى أن يتحول التاريخ الاجتماعي بكل ما يشتمل عليه من علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية إلى مجرد سردٍ تأريخيّ يُقدِّم «الأحداث» معزولة عن سياقاتها في «عُلبة» مُحكمة بأسلوب مُبسَّط. وبطبيعة الحال، لا شك أن مثل هذه «المعرفة المُعلَّبة» غير متحررة من «القِيَمْ» أو الأحكام الشخصية، فالعلوم الاجتماعية التاريخية لا يمكن أن تنتهي إلى قياس سلوك الإنسان تجريبياً كما لا يمكن أن يُقدَّم التاريخ الاجتماعي في «عُلبة» على هيئة «حدوتة» من نوع ما.
والكتابات في العلوم الاجتماعية تخضع بالمثل لـ«القِيَمْ»، فالتاريخ الاجتماعي ليس 1+1=2، وليس أصلاً معادلة، فقد تؤدي الأسباب نفسها إلى نتائج مختلفة، وقد تُفسَّر الأحداث ذاتها بطرق مختلفة، وبالتالي ليس من الضروري أن تكون الكتابات في العلوم الاجتماعية التي تؤخذ كمصادر لبرامج الـ«بوب ساينس» صحيحة ودقيقة، وإنما هي خاضعة بشكل ما أو بآخر لـ«تقدير قيميّ» ما أو موجّهة أيديولوجياً. ما أقصده هنا أنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال تقديم موضوعات العلوم الاجتماعية التاريخية – وبالتالي التاريخ الاجتماعي – في «عُلبة» من نوع ما إلا بتحويل هذه المواضيع إلى مجرَّد سردٍ تأريخي يُفقد التاريخ الاجتماعي روحه ويعزله عن سياقاته ويضغطه إلى «حدث» أو مجموعة أحداث تطرأ في زمان ومكان معينين.
وعدا عن أن عمليَّة «التعليب» هذه تنطوي على تجزئة للمعرفة وفصل للموضوع عن سياقاته، فضلاً عن رؤية خاضعة لـ«القِيَمْ» تُقدِّم قشرةً شديدة السطحيَّة عن الموضوع تكفي في الحد الأدنى لجذب المُتلقّي الذي قد لا يعرف عن الموضوع، فإن هذه «المعرفة المُعلَّبة» تنتهي إلى زيادة ما يمكن تسميته بـ«الكسل المعرفيّ» لدى المُتلقّي (عدم بذل مجهود لتحصيل المعرفة). ولأن المرء يتلقّى معلومات «مُعلَّبة» معزولة عن سياقها، فإن عملية «التعليب» هذه تُعطِّل المَلكات النقدية والتحليلية لعقل المُتلقّي، وفي أكثر السيناريوات تفاؤلاً تُلقي به في رحاب مصادر لا مانع من أن تكون أصلاً موجّهة أو مزيّفة أو على خطأ.
وإذا ما صرفنا النظر عن التمويل والملكية الإماراتية للقناة التي تبث برنامج «الدحيح» وتطبيع الإمارات مع العدو الصهيوني، وهو الأمر الذي يستوجب علينا مقاطعة كل ما تقدِّمه هذه القناة من برامج، فإن حلقة «الدحيح» عن فلسطين كانت فريدة من نوعها إذا ما وضعناها في سياقها الصحيح، أي إذا ما أدركنا سطحيّتها المقصودة ونوعية الجمهور التي بُذِلَت هذه الجهود من أجل الوصول إليه؛ الذين لا يعرفون الأحداث الرئيسية المرتبطة باحتلال أرض فلسطين من الأطفال والبالغين العرب والجمهور غير العربيّ الناطق بالإنكليزية.
في الواقع، يتطلَّب مشروع تحرير فلسطين إنساناً فريداً من نوعه لديه نفسيَّة المقاوم وقادراً على التخلّي عن كل ما تشتمل عليه ذاتيته ووضعه جانباً وبذل قصارى جهده في معرفة ذاته وعدوّه، و«المعرفة المُعلَّبة» لا تُنجب وعياً تحررياً، كما لا يمكن التعويل في تحرير فلسطين على شخصٍ يتلقى معرفته عن فلسطين والعدو الصهيوني بواسطة فيديو تلخيصي يقدِّم قصة نشأة الكيان الصهيوني وكأنها «حدّوتة» ما قبل النوم. وإذا كانت حلقة «الدحيح» مفيدة لمجرد معرفة سطح القشرة الخارجية التي تحيط بجوهر وبنية الاستعمار الصهيوني في فلسطين والوطن العربي، لا الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والجيواستراتيجية للمشروع الصهيوني في وطننا العربي، فإنه لا يمكن لأي شخصٍ يودّ أن يعرف عن فلسطين والعدو الصهيوني أن يكتفي بهذه الحلقة أو بغيرها من الحلقات، إذ يتطلَّب تحقيق هذه المعرفة أن يقوم المرء ببذل جهودٍ في البحث والقراءة والتحقيق، لا أن يستسهل ويتكاسل ويعتمد على «المعرفة المُعلَّبة» في تكوين معرفته عن ذاته وعدوّه الوجودي.
* باحث مصري