المُنتَج الإسرائيلي أصبح فاسداً. ليس من السهل الترويج له في مجتمعات الغرب. في الدول النامية، هو لم يكن يوماً محبّذاً لأن إسرائيل التصقت في تاريخها بالاستعمار والعنصريّة، ونُظِرَ إليها كدولة استعماريّة تعاملت مع العرب وفق تقاليد الاستعمار الوحشي وأعرافه. لكن الغرب بعد الحرب العالميّة الثانية كان في حالة الندم على ما فعله، هو، باليهود في مجتمعاته عبر التاريخ. لا تصدّقنَّ أن معاداة السامية هي مشكلة نازية حصراً، أو حكرٌ على ألمانيا. هي مشكلة عريقة في الكنيسة والمجتمعات المسيحيّة في أوروبا. قرّرت دول الغرب بعد الحرب العالميّة الثانية أن تكفّر عن ذنوبها عبر تقديم الدعم المطلق لدولة إسرائيل وتغطية جرائمها عبر العقود. ألمانيا زادت على ذلك بإغداق العطايا المالية (بالمليارات) على إسرائيل. وساهم الصهاينة في صناعة هوليوود في تقديم نموذج برّاق (مُخادِع) لإسرائيل والصهيونيّة. فيلم «الهجرة» (بطولة بول نيومان) رسّخ فكرة أسطوريّة مثاليّة عن حلم بناء دولة إسرائيل. وكان نجوم هوليوود يتسابقون لجمع التبرّعات لمصلحة إسرائيل. كان المنتَج الإسرائيلي في عزّه آنذاك، واستمرّ حتى الثمانينيّات. اجتياح لبنان وما صاحبه من مجازر عرّفَ أجيالاً مسنّة وشبابيّة على صورة حقيقيّة لإسرائيل. لكن غزة نزعت الحجب بالكامل عن صورة إسرائيل.

في الجامعات الأميركيّة، لم تكن إسرائيل تشغل النشاط الطلابي كثيراً. كانت المؤسّسات الجامعية موالية لإسرائيل لأنه كان هناك توافق بين اليمين واليسار حول دعم إسرائيل. وساهم المموّلون الصهاينة في مدّ الجامعات بجوّ موالٍ لإسرائيل عبر إنشاء كراسٍ دائمة للدراسات الإسرائيليّة أو لكراسٍ تحتضن سنوياً أستاذاً إسرائيليّاً زائراً. العرب كانوا في موقع دفاعي ضعيف، وخصوصاً أن الجامعات الأميركيّة لم تكن تقبل المال العربي «الملوّث». جامعة جورجتاون عانت كثيراً في «مركز الدراسات العربيّة المعاصرة» بسبب التمويل العربي، وخصوصاً عندما حاول القذافي تمويل كرسيّ لهشام شرابي (رفضت الجامعة التمويل). كان اللوبي الإسرائيلي (إيباك) ينشر دراسة سنويّة عن العمل المناهض لإسرائيل في الجامعات الأميركيّة وكانت قلّة منهم تجرؤ على استضافة نشاط معارض لإسرائيل، وموضة اعتبار نقد إسرائيل موازياً لمعاداة اليهودية لم تكن قد سرت بعد. كان دليل اللوبي للجامعات يلحظ أستاذاً مناهضاً للصهيونية هنا وآخر هناك. مراكز دراسات الشرق الأوسط كانت هي العدوّ الأبرز للوبي لأنها كانت تخرّج طلاباً متخصّصين في الشرق الأوسط، وكان هؤلاء غالباً موالين للحق الفلسطيني. الجهل بالقضيّة هو السلاح الأبرز للوبي الإسرائيلي، ولهذا حاول الصهاينة وقف تمويل الحكومة الأميركيّة لمراكز دراسات الشرق الأوسط في الجامعات. وأساتذة هذه المراكز كانوا أيضاً غالباً من المناهضين للصهيونية. وجمعيّة دراسات الشرق الأوسط (ميسا) كانت هي الأخرى بأكثرها مناهضة للصهيونيّة، ما حفّز الصهاينة على إنشاء منظمة صغيرة بديلة (ساهم فيها برنارد لويس، والصهيوني اللبناني فؤاد عجمي).
الجامعات حاربت النشاط المناصر لفلسطين في الألفيّة. كما أن العمل الطلابي العربي من أجل فلسطين عانى من مشاكل متراكمة. أولاً، قرار حركة «فتح» في السبعينيّات (بأمر من عرفات وتنفيذ من محمود عبّاس، يومها) بفصل العمل الفلسطيني الطلابي عن العمل الطلابي العربي العام في العالم. في الخمسينيّات والستينيّات، لم يكن هناك فصل بين العمل الفلسطيني والعربي. كانت القضيّة قوميّة بالفعل، وكانت المنظمات الفلسطينيّة (حتى السبعينيّات) تضمّ عرباً من جنسيّات مختلفة (كانت اللجنة المركزيّة للجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين تضمّ أعضاء من جنسيّات مختلفة). عرفات أراد (باسم الشعار الزائف، «القرار الفلسطيني المستقل») أن يتفرّد بالقرارات كي لا يسمح بمواقف جذريّة أن تؤثّر على مواقفه التسوويّة (شرح الياس شوفاني ذلك في كتابه «مرئيّة الصفاء»). ثانياً، أحبطت دول الخليج النشاط السياسي القومي المناهض لإسرائيل بعد حرب الخليج في ١٩٩١. كانت المنظمات العربيّة (الطلابيّة والمهنيّة) تستعين بدعم مالي من السفارات العربيّة لعقد مؤتمراتها. استعانةُ دول الخليج بالحماية الأميركيّة المباشرة والوحشيّة بعد الاجتياح العراقي للكويت قضت على الرعاية الخليجية، وقد حاربت سفارات الخليج كل اللوبيات والمنظمات العربيّة لأن الأجندة تبدّلت. لم تعد فلسطين في الوارد. اقتناء السلاح والاستعانة باللوبي الإسرائيلي باتا الأولويّة القصوى.

طغيان الموقف الفلسطيني على مواقع التواصل هو سبب من أسباب تحرّر الشباب في الغرب من سطوة السرديّة الصهيونيّة


ماتت الجمعيّات الطلابيّة العربيّة وتشتّت التنظيم العربي في الجامعات. بدلاً من تنظيم يعنى بتحضير نشاطات للتعريف بفلسطين والقضايا العربيّة، نبتت نوادٍ فينيقيّة وفرعونيّة تهتم بالشرذمة لا بالجمع. وبعض النوادي اللبنانية الفينيقيّة لم تجد غضاضة من عقد صلات مع نوادٍ إسرائيليّة، لكن اللبناني شاذّ سياسيّاً بطبعه خلافاً لمعظم العرب. الوجود الإسرائيلي لم يختفِ من الجامعات وكان هناك مزج بين النوادي اليهودية ونوادٍ مناصرة إسرائيل. وكان المتبرّعون الصهاينة الأثرياء ينفقون في دعم هذه النوادي وفي إنشاء مبانٍ (أحياناً) لجمع أعضاء نوادي الـ«هيليل» الخاصّة باليهود. العرب متروكون لجهودهم الفرديّة، واندثرت العقائد القوميّة الجامعة، وتحوّل البعض نحو جمعيّات إسلاميّة أخذت على عاتقها العمل من أجل فلسطين. نبتت نوادٍ خاصة بفلسطين، وهي استقطبت عرباً ويهوداً وآخرين. أصبح نادي «طلاب من أجل عدالة في فلسطين» هو الأبرز. وأذكر عندما كنتُ أجول في الجامعات في أوروبا وكندا وأميركا أن بعض هذه النوادي كان يضم أغلبية من اليهود. ورأينا في الأسابيع الماضية الحضور القوي لتجمّع «أصوات يهوديّة من أجل السلام».
لكن زخماً من النشاط المناصر لفلسطين أصاب الجامعات الأميركيّة في العقدَين الماضيَين. تحوّل شهر آذار إلى مناسبة لعقد نشاطات من ضمن «أسبوع عن الأبرثايد الإسرائيلي». أصيبت المنظمات الصهيونيّة بالذعر، وخصوصاً أن بضاعة إسرائيل أصبحت فاسدة عند الشباب. ترى الأسماء من مشاهير هوليوود على عرائض في دعم حرب إسرائيل (وهذه العرائض ينظّمها منتجون أثرياء من الصهاينة)، ونادراً ما ترى أسماء من الصف الأوّل، كما كانت الحال في الماضي. الشباب الغربي يهجر إسرائيل ويلتحق بالحق الفلسطيني. تقارن بين نسب تأييد إسرائيل حسب العمر وترى فارقاً هائلاً: نحو ٨٠٪ بين الذين يتخطّون الستين مع إسرائيل، ونسبة نحو الثلث فقط عند الشباب. واليوم ظهر استطلاع جديد (لـ«كوينيبيك») يؤكد أن أكثر من نصف الشباب في سن الاقتراع مع فلسطين. وحتى الشباب اليهودي أقل مناصرة لإسرائيل بكثير من الآباء والأجداد. النوادي الموالية لإسرائيل وجدت نفسها في نفور مع البيئة الطلابية. لم تعد تنفع شعارات الماضي: عن دولة ضعيفة مُحاطة بعرب أقوياء، أو أن إسرائيل دولة ديموقراطيّة. وقد ساعد بروز نتنياهو وقيادته لإسرائيل على مدى نحو عقدين في الإساءة للمنتج الاسرائيلي لأنه ارتبط ارتباطاً وثيقاً باليمين الغربي العنصري المتطرّف. لم يعد ممكناً تسويق إسرائيل كدولة اشتراكية ديموقراطية. التركيز على كلمة أبرثايد وإجماع (وإن متأخر) منظمات حقوق الإنسان الغربيّة حول طبيعة أبرثايد إسرائيل أبعد عنها مؤيّدين محتملين. جمعيات حقوق الإنسان الغربيّة (بالرغم من اعتراضنا الشديد عليها، نحن العرب، وعن حق) تلقى الكثير من المصداقية بين طلبة الجامعات.
الحرب الحاليّة وضعت الصهيونيّة الأميركيّة في موضع شديد الحراجة:
1) الحزب الديموقراطي بصورة عامّة، والقطاع الشبابي فيه بصورة خاصّة، هجر قضيّة إسرائيل، إمّا بسبب ارتباطها بشخص نتنياهو واليمين المتطرّف أو لأن التغطية الإعلاميّة الحديثة فضحت حقيقة إسرائيل. في غضون عشرين سنة فقط، زادت نسبة التعاطف الديموقراطي مع فلسطين من نحو ١٥٪ إلى ما يقارب الـ ٥٠ بالمئة اليوم (حسب استطلاع «غالوب»).
2) لا شك أن الأزمة الكبرى بالنسبة إلى إسرائيل تكمن في تغطية وسائل التواصل الاجتماعي. هناك انفصام بين تغطية الإعلام التقليدي عن الصراع وتغطية الإعلام الجديد على المواقع (هنا يمكن عقد مقارنة معاكسة في الإعلام العربي الجديد، المموَّل من حكومات الأطلسي وسوروس، إذ نجده أقلّ تعاطفاً مع فلسطين من الإعلام العربي التقليدي لأنه محكوم بالضوابط الصهيونية التي يفرضها المُمَوِّل).
وحاولت مجموعة من الجمهوريّين هذا الأسبوع فرض حظر على «تيك توك» في كل البلاد، وأشاروا إلى حقيقة أن عدد شرائط الفيديو المرتبطة بهاشتاغ «فلسطين حرّة» أكبر بكثير من تلك المرتبطة بهاشتاغ «أنا أقف مع إسرائيل». لكن درو هارويل في «واشنطن بوست» على حقّ عندما يشير إلى أن نسبة تأييد فلسطين على مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى المملوكة أميركيّاً لا تختلف عن مضمون «تيك توك» (بالرغم من أن تلك عرضة لرقابة صهيونيّة صارمة يفرضها مارك زوكربرغ وغيره من أصحاب شركات التواصل الكبرى). إنّ عدد البوستات ذات الهاشتاغ «فلسطين حرّة» على «فايسبوك» فاق الـ ١١ مليوناً، أي ٣٩ مرة أكثر من بوستات مرتبطة بـ«أنا أقف مع إسرائيل». وعلى «إنستاغرام»، ارتبطت البوستات المرتبطة بهاشتاغات فلسطين بـ ٦ ملايين بوست، ٢٦ مرّة أكثر من البوستات الموالية لإسرائيل (هذه الأرقام من ١٣ نوفمبر).
وحقيقة طغيان الموقف الفلسطيني على مواقع التواصل هي سبب من أسباب تحرّر الشباب في الغرب من سطوة السرديّة الصهيونيّة. الإعلام التقليدي كان، ولا يزال، خاضعاً، لتأثير اللوبيات الصهيونيّة. اتصال واحد من مدير منظمة «إي دي إل» الصهيونية لناشر صحيفة أو مدير أخبار في محطة تلفزيونية يكفي لفرض سرديّة ومنع أخرى بديلة. والشباب العربي والغربي الناشط يستطيع أن يدحض أكاذيب إسرائيل في دقائق معدودة. لاحظوا كمّ التغريدات أو شرائط الدعاية والأكاذيب التي اضطرّ العدوّ إلى أن يمحوها بعدما دحضها وفنّدها شباب المواقع. في الصحف، كنا نقرأ أكاذيب صهيونية. وكنتُ ساذجاً عند وصولي إلى أميركا، إذ إنني كنتُ أدبّج الرسائل وأرسلها إلى بريد القراء في الصحف لأفنّد أكاذيب إسرائيل. لكن سرعان ما اكتشفت معايير النشر: على العربي بداية أن يبدو معتدلاً بأن يقول، أنا أعترف بإسرائيل ولها الحق في الأمن، لكن الشعب الفلسطيني مسكين، أو أيّ كلام من هذا القبيل. المقولات الحادة وغير المواربة لا تجد طريقها للنشر.
3) المشكلة العرقيّة. إسرائيل خسرت الملوّنين، من السود والآسيويّين والمتحدّرين من أميركا اللاتينيّة. نسبة تأييد إسرائيل باتت نحو الثلث بين السود. والشباب الأسود كان الأكثر حماسةً وجرأة في الهتافات في التظاهرات التي جرت هنا. بعض السود (لقدرتهم على الذهاب بعيداً أكثر من غيرهم في اختبار حدود حريّة التعبير، خلافاً للعرب) لم يتورّع عن الهتاف لـ«حماس» وهي تُعدّ منظمة إرهابيّة هنا. البضاعة الإسرائيليّة هي اليوم بيضاء ويمينيّة رجعيّة ومتقدمة في السن، ديموغرافيّاً. والتظاهرة التي نُظّمت قبل أيام في واشنطن كانت صارخة في بياض وجوه متظاهريها.
المنظمات الصهيونية قلقة وهي تضغط من أجل حظر النوادي المناصرة لفلسطين. جامعة براندايس الصهيونية كانت أول جامعة تحظر نادي فلسطين، وتبعتها جامعات أخرى. المنظمات الصهيونية قلقة، وتكاد أن تعلن أن كل مناصرة لفلسطين هي معاداة للسامية. وشعار «من البحر إلى النهر» بات قضيّة القضايا وتم اعتباره بصورة شبه رسمية كشعار إباديٍ ضد اليهود. لكنّ الشعار انتشر أكثر من أي وقت، وكل التظاهرات باتت تهتفه. الصهيونيّة في أزمة، وحرب الإبادة في غزة، يا للمفارقة، فاقمت تلك الأزمة. الناس ترى إسرائيل على حقيقتها. لم تعد الشعارات تنطلي. الوعي هو ما عوّلت الصهيونيّة الغربيّة على غيابه.
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@