في تظاهرة عارمة في العاصمة الأميركية واشنطن، صرّحت السيدة ريناد دايم من ولاية كليفلاند الأميركية، التي شاركت وعائلتها في تظاهرة داعمة لغزة، يوم 4 تشرين الثاني، أن «الشعب الفلسطيني قادر على الصمود». وطالبت دايم وكالة «أسوشييتد برس»، التي نشرت تقريراً في الخامس من تشرين الثاني عن حجم التظاهرات العالمية المطالبة بوقف القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، بأنها تريد «زعيماً ليس بدمية في يد الحكومة الإسرائيلية».في مقولتها هذه، اختصرت السيدة ما تراه من سياسات إدارة بايدن تجاه الاحتلال. هذه الإدارة التي وفرت الدعم المالي والتسليحي والسياسي، وهدّدت دول المنطقة بإرسال البوارج الحربية وحاملات الطائرات، وصولاً إلى تأييد وتبنّي رواية الاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن تغطية جرائمه، كقصف المستشفيات، وصولاً إلى التشكيك بأرقام الشهداء والجرحى من الفلسطينيين في القطاع. ورغم أن الاحتلال لم يجد دليلاً واحداً يؤكد ادعاءه بأن المستشفيات في القطاع تُؤوي المقاومين، إلا أن الإدارة الأميركية تبنّت هذا الطرح، واعتبرت أن لديها معلوماتها عن هذا الأمر حسب بايدن نفسه. هذا وغيره من تصريحات وأفعال ودعم أعمى للاحتلال يعبّر فعلاً عن زعيم «دمية» بيد حكومة الاحتلال.
هذه العيّنة من المتظاهرين في الغرب، والتي انتشرت مندّدة بسياسات دولها الداعمة للاحتلال، أثارت مخاوف الكتّاب الإسرائيليين، الذين انبروا للكتابة عن هذه القضية، متوجهين إلى تلك الحكومات بخطاب «القيم»، ومنها المقال الذي صدر في معهد دراسات الأمن القومي (مركز إسرائيلي)، تحت عنوان «الحرب في غزة والتهديد الداخلي في الغرب»، للكاتبين: إيهود روسن وسهارا إيلام، اللذين وضعا التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة «أنها اختبار حاسم لحماية القيم الإنسانية والليبرالية للعالم المستنير».

التخوّف الإسرائيلي
وينقل المقال ذاته رسالة لرئيس الكيان الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، بعثها إلى رؤساء الجامعات والكليات الأميركية في 7 تشرين الثاني، جرّب فيها لعبة الدعاية لتشويه صورة النضال الفلسطيني ومقاومته، وتحريك فكر الفئة الشبابية وعواطفها في الولايات المتحدة، فوصف عملية «طوفان الأقصى» بأنها ليست مجرد جولة أخرى من الحرب، بل «هذا الصراع هو أكثر بكثير من مجرد صراع بين إسرائيل وحماس: وعلى المحكّ الآن، ما إذا كان العالم المستنير سيدافع عن القواعد الأساسية للإنسانية، أو سيختار قبول انتهاكها، بل وحتى دعمها».
وفي هذا الإطار، يطرح تساؤلاً، ليس فقط عمّا اعتدناه تاريخياً من قبل الاحتلال بالقيام بدور الضحية، أو تصدير نفسه «واحة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، التي تواجه «البربرية» والديكتاتورية العربية، بل نلمس الآن، محاولة اختصار القيم من حريات، وحقوق إنسان، وغيرها، في إسرائيل حصراً، وحجبها عن الفلسطيني والعربي، بل وحتى اعتبار أن من لا يؤيد الاحتلال في هذه الحرب لديه مشكلة في استقراره الداخلي وقيمه التاريخية.
وأمام الدعم المفتوح من قبل دول الغرب للاحتلال، أتساءل أين هي القيم الغربية من «حرية» و«عدالة» و«مساواة» التي يتشدّق الغرب بها، والدم الفلسطيني المسفوح يجري أنهاراً أمام مرأى الدول الغربية ومسمعها، وهل «القيم الغربية» أدوات تصلح للدفاع عن فلسطين في الغرب.
ربما أوافق مع ما يراه الدكتور عزمي بشارة، وهو جواب فيه من المنطق، ففي مقاله «قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة»، التي نشرها في موقع «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» (12 تشرين الثاني)، أن تلك القيم هي قيم كونية «أين ذهبت قيم المساواة والحرية والعدالة؟ [في إشارة إلى مجازر الاحتلال بغزة] لم تذهب إلى أيّ مكان. إنها الأدوات التي ما زلنا ندافع بالاستناد إليها عن قضية فلسطين، وعن غزة، وفي إدانة إسرائيل (...) والتظاهرات التي تخرج في كلّ أنحاء العالم للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وعلى رأسه ضحايا العدوان في غزة والضفة الغربية المحتلة، لا يفعلون ذلك لأن الفلسطينيين عرب أو مسلمون، بل لأنهم يؤمنون بالمساواة والعدالة ويرفضون الاحتلال».

مسار مختلف؟
كنت في السابق، مع تقديري لهذه الأنشطة في الغرب من تظاهرات واعتصامات، أرى أن تأثيرها صفري، فهي لم تحدث أي تغيير في السياسات الغربية طوال سنوات مديدة من النضال الفلسطيني، ما جعل الآمال لا تعلّق عليها كثيراً، لكن باعتقادي أن مسار الأمور اختلف هذه المرة، نظراً إلى مؤشرات لا يمكن القفز فوقها.
كان من اللافت جداً، في اليوم التالي من عملية «طوفان الأقصى» ولدى ارتكاب الاحتلال مجازر مروّعة في غزة ما زالت حتى كتابة هذه السطور، أن انطلقت عشرات التظاهرات في أوروبا وأميركا الشمالية، ولقد رصدت «الجزيرة نت» 46 تظاهرة كبرى في مختلف أنحاء أوروبا، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا. شارك فيها مجتمعة أكثر من 5 ملايين متظاهر بحسب تقديرات غير رسمية. هذه الأرقام الكبيرة في الغرب، تدلل على حجم التعاطف القيمي والإنساني مع أهالي غزة، وبالتالي التأييد للحق الفلسطيني كقضية إنسانية، وحقه في تقرير مصيره عبر نيله الحرية، ذلك أن الأجيال الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا تختلف عن الجيل السابق المؤيد بنسبة كبيرة للاحتلال الإسرائيلي، وهذا ما أظهره تحقيق أجرته مجلة «نيوزويك» عن الأحزاب السياسية، والفئات العمرية، فقد تبيّن أن البالغين الأميركيين تحت سن الـ 30 ينظرون إلى الشعب الفلسطيني على أنه المفضّل، بنسبة 61%، في حين أنهم ينظرون بتعاطف إلى الإسرائيليين ما نسبتهم 56% فقط. أمّا الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً فما فوق، فإن 78% منهم ينظرون إلى الإسرائيليين بشكل إيجابي، بينما يرى 47% فقط الفلسطينيين بشكل إيجابي.
ولقد علقت سوزان بليك، محررة التقرير، بأن «الاختلاف في وجهات النظر يعكس اختلافاً صارخاً في نظرة كل طرف في أميركا للصراع في منطقة الشرق الأوسط، فقد وصل الدعم لفلسطين إلى مستويات تاريخية في السنوات الأخيرة، حيث يصف بعض الأميركيين احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية هناك بأنه تطهير عرقي».
مسار الأمور اختلف هذه المرة، نظراً إلى مؤشرات لا يمكن القفز فوقها


ربما من المبكر الحديث عن نتائج حاسمة لهذا التأييد. لكن مع مرور السنوات، لا أستغرب إن أصبح تأييد القضية الفلسطينية سيدخل في البرامج الانتخابية، في الغرب.
أمّا المؤشر الثاني، فهو إقالة الوزيرة البريطانية التي اتهمت الشرطة البريطانية بالتحيز للفلسطينيين في التظاهرات، ما أدى إلى ضغط جماهيري كبير استجاب له رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، ومتى كان يراعي شعور المتضامنين مع فلسطين؟!
إنّ هذه المؤشرات، بتقديري، لم تأت حصراً من القيم الإنسانية التي يتّسم بها أيّ مجتمع فقط، بل أرجّح أن الأمر يعود إلى قدرة الإنسان الغربي على الوصول إلى الحقيقة خارج إطار الإعلام المسيّس والمسيطر عليه من اللوبي اليهودي، ولا سيما من الأجيال الجديدة التي رصدت جرائم الاحتلال، ورفضت أي حلول دولية للقضية الفلسطينية. فضلاً عن الدور الذي قامت به الجاليات العربية، والفلسطينية، التي أطَّرت نفسها بتجمّعات وطنية معنية بشرح معاناة الشعب الفلسطيني، وكشف زيف الاحتلال، والدعم الغربي المفضوح.
وبالتالي، بناءً على هذه المؤشرات، من المهم إعطاء الأولوية والاهتمام الكافي لهذا الحراك الشعبي الغربي من قبل الفلسطينيين، لعلّها تشكل عاملاً رئيسياً في انحسار أو تآكل الدعم الغربي المفضوح لمصلحة الاحتلال، وهذا بالتأكيد لمصلحة الفلسطينيين، وهذا ما لمسناه فعلياً من نشاط حركة المقاطعة الدولية للاحتلال التي قدّمت نموذجاً عمّا يمكن القيام به في الغرب.
* إعلامي فلسطيني