لا شك أنّ لمعركة «طوفان الأقصى»، والحرب التي تُشنّ على قطاع غزة، انعكاساتها وتأثيراتها على العلاقات الدولية القائمة في نظامٍ دوليٍّ هشّ، يتأثر بالأحداث الحاصلة في مشهد السياسة الدولية والإقليمية التي تزيد من ترنّحه باستمرار. يصعب معرفة الصورة المقبلة للمنطقة، كما يتعذّر رسم مشهدٍ لها أو تصوّر خريطةٍ ما حولها - على الرغم من أنّنا نرى أن مستقبل فلسطين سيكون الأكثر حضوراً - ولذلك لا بدّ من فهم البيئة الدولية والإقليمية المحيطة بما يحصل، حيث تُحدّد معالم المشهد وتتأثر العلاقات الدولية وترتسم معالمها من قِبل الفاعلين الدوليين والإقليميين.
ومما يزيد الوضع خطورةً أنّنا نعيش في نظامٍ عالميٍّ تحكمه المصالح، ويشهد تحولاتٍ كثيرةً يمكن أن تجعل الشعوب والدول أمام خطر التعرّض لأمنها واستقرارها وسلامتها، حيث تعمل القوى المسيطرة بشراسةٍ للحفاظ على مكانتها في قمة النظام، بينما تسعى القوى المنافسة إلى تغيير شكل علاقات القوة، وخاصّةً أنّها أمام فرصةٍ كبيرةٍ لتثبيت صعودها وتمركزها، مستندةً بذلك إلى ما تملكه من قوة لمحورها وقوى منخرطة تجلّت في معركة طوفان الأقصى.

التداعيات الإقليمية
من المتوقع أن تكون لهذه المعركة تأثيراتها على المشهد الدولي والإقليمي معاً، إلا أن تأثيراتها الإقليمية ستكون ملموسة أكثر من تأثيراتها الدولية على المدى القصير، بينما تأثيراتها الدولية تحصل بالتراكم. هذه الحرب الحاصلة بمحدوديتها الجغرافية وأطرافها المتعددة، بالموازاة مع الحرب الروسية الأوكرانية، ستترك تداعيات استراتيجية كبيرة على السلم والأمن الدوليين وتغيّرات النظام الدولي، إلا أنها سوف ترسم وجه المنطقة في السنوات المقبلة، وبالتالي فإن رسم مشهد الشرق الأوسط سيؤدي إلى رسم المشهد العالمي بصورة أو بأخرى.
لطالما كان الشرق الأوسط مرآةً تعكس موازين القوى العالمية، وخاصةً أنّه قلب العالم، والسيطرة عليه وفق الاستراتيجي البريطاني ماكندر هي أساس الهيمنة العالمية. ويبدو أنّ خريطة المنطقة السياسية لن تبقى كما هي، في ظل ترهّل المشروع الأميركي، وضرب بنيان وأساسات قوة الردع الإسرائيلية، وتطوّر محور المقاومة الذي يحمل شعار مستقبل فلسطين، مع ما يؤشر ذلك إلى تحوّلات ستحصل في الخريطة السياسية ولربما الجيوسياسية للمنطقة.
وما يزيد من نسبة الصراع وتوتّر العلاقات وتصاعد حدّة المواجهة هو أنّ كلّ معسكرٍ يملك عوامل ومقوّماتٍ تجعله قادراً على المواجهة، وفي لحظةٍ ما على اتّخاذ قرارٍ يغيّر مصير كلّ النّظام الإقليمي. ولا نغالي إن قلنا إن ذلك سيؤثر على كلّ النظام الدولي، وخاصةً أننا نتحدث عن قضيةٍ ناهز عمرها الثمانين عاماً. ولا تزال إلى اليوم تملك شعلة الحق مقابل الباطل، وتوّلد أجيالاً لا تكلّ ولا تملّ من المواجهة. فقد أثبتت معركة طوفان الأقصى أنّ الشعب الفلسطيني لم ينس قضيته، وأنّها ستؤثر على بناء جيلٍ جديدٍ من الذين يقاتلون لتحرير فلسطين.
إذاً، نحن أمام محطةٍ تاريخيةٍ من عمر المنطقة، حيث سيكون للمجريات الحالية تبعات وتداعيات لم يشهدها الكيان الإسرائيلي من قبل، كما أنها من المفترض أن تؤثر على الصراع العربي الإسرائيلي والذي ترتسم معالمه في فلسطين، وستكون انعكاساتها على الجبهة الداخلية لكيان العدوّ بشكل كبير، فضلاً عن إمكانيات تغيّر قواعد الصراع في المنطقة بعدما كانت الإدارة الأميركية تعمل بشكل حثيث على تثبيت استراتيجية التطبيع وبناء علاقات ديبلوماسية واقتصادية جديدة في المنطقة.
لقد أفضت عملية «طوفان الأقصى» إلى انهيار المقاربة الإسرائيلية القائمة على تثبيت أنها أمر واقع أمام الفلسطينيين، كما أنها ستؤدي إلى تمزيق مقولة أن التطبيع البديل من حل القضية الفلسطينية سيجعل إسرائيل أكثر اندماجاً في الشرق الأوسط وأكثر أمناً، فالتهديد الحقيقي لم يكن من حلفاء أميركا وإسرائيل وإنما يتأتى من الشعب الفلسطيني نفسه ومن قوى المقاومة في فلسطين والمنطقة.

التداعيات الدولية
يشكّل السعي الحثيث للوقوف في وجه الهيمنة الدولية الأميركية سبباً واضحاً لتأجيج الصراعات العالمية. وبالتالي، هناك تشكل لتكتل واضح ضدّ الهيمنة الأحادية القطبية للولايات المتّحدة الأميركية، والتحوّل من مجرّد التماشي واحتواء السيطرة إلى البدء في الانتقال إلى المواجهة، فالقوى العظمى تخسر قيادتها، عندما تقوم القوى المناوئة لها بمواجهتها. ما تقدم بدا واضحاً ويتبلور أكثر خلال العدوان على غزة، والتهديدات المتقابلة بين واشنطن ومحور المقاومة، ومن ثم بدأ يظهر تغيّر الرأي العام العالمي من الدعم الأميركي لإسرائيل، والمواقف الروسية الصينية القريبة نوعاً ما ممّا يتبناه المحور.
أظهرت «طوفان الأقصى» أن هناك محوراً يراكم الإنجازات وينتصر بالنقاط يبحث عن إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، ويضع هدفاً أمامه هو تحرير فلسطين، ومن ثم إن هدفه الأبرز هو تحرير كل المنطقة من الهيمنة الأميركية، وإن كان هذا الهدف ليس سهل التحقق أو هدف منظور التحقق، إلا أنه هدف استراتيجيّ تنطلق منه هذه القوى لتراكم الإنجازات فيه.
ولا شك أنه إذا ما صمدت وانتصرت المقاومة في فلسطين مدعومة بقوى المحور، فإننا سنكون أمام تسجيل نصرَين كبيرين: الأول من خلال طوفان الأقصى، والثاني بكسر الأهداف الأميركية الإسرائيلية المعلنة بالتخلّص من حركة «حماس»، وفرض إدارة جديدة في غزة من خلال السلطة الفلسطينية أو من خلال إدارة دولية مؤقتة، ما يعني أيضاً أن هذا المحور يساهم بشكل أو بآخر مع أصدقائه الدوليين في رسم خريطة العالم السياسي، في منطقة هي قلب العالم.
في المقابل، نشهد اليوم محاولات أميركية لاحتواء إشعال حرب إقليمية وهذا ما يتحدث عنه كل الخبراء الأميركيين في الصحف والدراسات التي تنشر منذ 7 تشرين الأول، ومن ثم منع هزيمة إسرائيل كلياً وإعادة ترميم صورة الردع التي فقدتها في 7 تشرين على المستوى العسكري والأمني وحتى السياسي، وذلك لأن واشنطن تعلم جيداً أن الحرب الإقليمية إن فتحت فإنها ستؤثر على كل مصالحها في الشرق الأوسط، ولربما في العالم في لحظة تراجع النفوذ الأميركي وتدنّي التأثير في النظام الدولي.
نحن اليوم أمام ظروف معقّدة وحساسة جداً في الإقليم، وهذه الأحداث سوف تساهم بالنقاط في جعل النظام الدولي الحالي القائم على الهيمنة الأميركية يقف على شفير الهاوية، إذ لا توجد اليوم معادلة صفرية بل هناك تأثر وتأثير بين النظامين، فالنظام الإقليمي يعكس التصدعات والخلافات والأزمات في النظام الدولي، وما يحصل هو مرحلة انتقالية حرجة تشهد تغيير القواعد الثابتة في العلاقات الدولية.
ما يمكنني أن أقوله ختاماً، إن ما سنشهده في المنطقة مستقبلاً سيكون لمصلحة فلسطين والقدس ومحورها، حيث لم يعد يمكن التغاضي عن حقوق الشعب الفلسطيني، كما أن التطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي لن يكون هو الحل الأنسب لإسرائيل أو يعطيها أمناً مزعوماً على حساب الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن هناك محوراً متكاملاً يتقدّم، ولا يمكن النظر لأيّ ترتيب في المنطقة دون الوقوف عند إرادته.
وعلى الرغم ممّا تقدم، إلا أن السؤال المحوري الذي يمكن طرحه: هل سيقف الأميركي مكتوف اليدين؟ أم أن وحشيته ستزداد للدفاع عن هيمنته؟ هذا سؤال مهم جداً يفتح آفاقاً كبيرة للبحث، وخاصةً أن روسيا تبحث عن إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية لجوارها وتنمية دورها العالمي، وبالتالي تقدّمها إلى القيام بدور أوسع في العلاقات الدولية، ما يعني أيضاً رسم خريطة العالم السياسي، فضلاً عن تقدم بكين التي تعيد حالياً رسم الخريطة الاقتصادية، وبالتالي أيضاً توسع نفوذها السياسي في غير منطقة من العالم.

* باحث وأستاذ جامعي