في مشهدٍ لم يعهده سكّان المعمورة بأسرها، استطاع مقاومون فلسطينيون أن يعبروا سوراً صوَّره الكيان الصهيوني والإعلام الدولي كأحد أنجع الابتكارات التكنولوجية العسكرية الإسرائيلية، مستخدمين طائرات شراعية مزوّدة بمروحيات للدفع تحمل من شخصٍ إلى اثنين، متوجّهين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة في ما يسمّى مستوطنات غلاف غزة، ليثبتوا أن ميدان «الأرض» ما زال قائماً، في تطور ميداني نوعيّ لحرب التحرير العربية. استطاع الفلسطينيّ في هذا المشهد أن يقضي على أساطير نجاعة الابتكار العسكري الإسرائيلي والسردية الغربية الحقيرة الرائجة عن الإنسان العربيّ، تاركاً تأثيراً عميقاً على الساحة العربية والمصرية بشكل خاص. منذ اليوم الأول لملحمة «طوفان الأقصى»، عبَّر المصريون عن تضامنهم مع أشقائهم الفلسطينيين، وصاحب ذلك حالة غضبٍ عارمة ملحوظة إزاء صمت الحكومة المصرية عن القصف الإسرائيلي لمعبر رفح واستمرار غلق المعبر وعدم الرد على تحذيرات العدو بضرب المساعدات التي ستعبر دون إذن.في الأيام الأولى، خرج المصريون بالمئات حاملين أعلام فلسطين وهاتفين باسمها داخل الجامعة الأميركية وجامعة القاهرة ومسجد الأزهر الشريف ونقابة الصحافيين. وخلال اليوم التالي لمذبحة مستشفى المعمداني، شَهد سُلَّم نقابة الصحافيين مشهداً كان غائباً لسنوات، وتظاهر الطلاب المصريون في جامعة القاهرة والإسكندرية والفيوم والمنصورة والمنيا وجامعات أخرى للتنديد بالإبادة الجماعية التي يتعرَّض لها الشعب الفلسطيني. ومع تطور الموقف المصري الرسمي إزاء الحدث، لوَّح الرئيس عبد الفتاح السيسي بسماحه للمصريين بالتعبير عن رأيهم في تهجير الفلسطينيين إلى سيناء. ومباشرة بعد ذلك، ظهرت تظاهرات في عدة مدن تموقعت في المناطق التي تسيطر عليها ميدانياً الأحزاب الموالية للسلطة منذ عام 2014، ومع ذلك عكست الجامعات المصرية صورةً أخرى.
منذ عام 2014 والمشهد السياسي في الجامعات المصرية آخذٌ في التلاشي، وخلال السنوات السابقة اقتصر الحرم الجامعي على فعاليات طلابية مرتبطة بتنظيمات الأحزاب الموالية للسلطة، ولكن الطلاب المصريين استطاعوا خلال اليوم التالي لمذبحة مستشفى المعمداني إعادة مشهدٍ كان غائباً لقرابة العقد عن الجامعات المصرية، والسبب هو «طوفان الأقصى». وعلى العكس من التظاهرات التي تحدث في المناطق التي تسيطر عليها ميدانياً الأحزاب الموالية للسلطة، لا تتوقف الهتافات التي يرددها الطلاب المصريون عند حدود الخطاب الرسمي، وإنما تتعدى ذلك معبرة عن تأييدٍ غير مشروط للمقاومة وغضبٍ تجاه الموقف المصري الرسمي.
يمكن لعناصر الأحزاب الموالية للسلطة أن تسيطر على الميادين خارج الجامعة بكل سهولة، في حين يستطيع الطلاب داخل الجامعات أن يفرضوا هتافاتهم في غياب هذه العناصر، كما يقلّل وجودهم داخل الحرم الجامعي من احتمال تعرضهم للقمع الأمني الذي قد يحدث خارج الجامعة. وفي الوقت نفسه، يمكن للشرطة أن تَفُضّ أيّ تظاهرة للطلاب خارج الجامعة دون عنف كما شهدنا في اليوم التالي لمذبحة مستشفى المعمداني، في حين يمكنها تحجيم أيّ تظاهرات أخرى أو منع التجمعات خارج نطاق الأماكن التي تسيطر عليها عناصر الأحزاب الموالية للسلطة.
من الواضح أن دعوة الرئيس، التي تُفضي في النهاية إلى سيطرة عناصر الأحزاب الموالية للسلطة على الميادين خارج الجامعة وتصوير الإعلام لهذه التظاهرات المضبوطة بوصفها دعماً للرئيس، مقصودٌ من ورائها في الأساس تحجيم أيّ تظاهرات للمصريين قد تتخطى حدود الموقف الرسمي، سواء من حيث الهتافات أو ميدانياً.
محيط السفارتين الإسرائيلية والأميركية في القاهرة على مستوى عالٍ من التأمين، ولا يبقى للمتظاهرين ليعبّروا عن غضبهم دون قيود سوى سُلَّم نقابة الصحافيين، وليس من الصعب توقُّع أن تُسيطر عناصر الأحزاب الموالية للسلطة على معظم ميادين المحافظات الأخرى؛ هذه الحالة التي يشهدها المصريون لا تترك أمامهم سوى الجامعة ليعبِّروا عمّا يدور داخلهم بحرية.
لم تكن رؤية العلم الفلسطيني في الجامعات المصرية بالأمر النادر، وإنما كان حاضراً كلما دخلت غزة جولة مع الكيان الصهيوني إلى جانب هتافاتٍ تؤيد المقاومة على مدار الفترة السابقة لعام 2014، ولكن بسبب منع النشاط السياسي داخل الجامعات مع تغيُّرات سياسية أخرى في العام نفسه، لم يُرفَع العلم الفلسطيني في أيّ جامعة مصرية إلا في الأيام الأولى لملحمة «طوفان الأقصى». هؤلاء الطلاب الغاضبون يعكسون حقيقةً كان البعض يعتقد أنها نُسِيَت مقابل سلامٍ دافئ مع العدو الصهيوني؛ المصريّ يعلم، عن ظهر قلب، أن الصهيوني هو عدوه الوجودي، وأن الغرب راعٍ للحرب والإرهاب والصهيونية، وأن الفلسطينيين متمسكون بآخر ذرة من تراب فلسطين كما يتمسَّكُ أبناء جلدتهم المصريون بآخر ذرّة من تراب سيناء.
في الجامعة، الموضوع الذي يتحدث عنه الجميع هو غزة وملحمة «طوفان الأقصى»، ولم يقتصر نشاط الطلاب على التظاهر في الجامعات وحسب، وإنما قاموا بحملات مكثفة على جميع وسائل التواصل الاجتماعي. في البداية، أنشأ الطلاب مجموعات إلكترونية لتبادل الأخبار وأخذوا يعبِّرون لبعضهم البعض عن آرائهم إزاء الحدث، وسرعان ما تحوّل هذا النشاط إلى حملة مقاطعة موسَّعة للشركات التي تدعم الكيان الصهيوني، وكان تأثير هذه الحملات واضحاً في حالة «ماكدونالدز» الذي أصبحت معظم فروعه خالية من الناس على غير عادة. ومع تطور الأحداث في غزة وقصف مستشفى المعمداني، تحوّل قطاع كبير من الطلاب إلى الدعوة بشكل مباشر إلى التظاهر في الجامعة ومحيطها؛ فأنشأوا مجموعات على «واتساب» و«تيليغرام» وغيرهما تضم آلاف الطلاب، وكانت النتيجة الأولى لهذا النشاط ما رأيناه في الجامعات المصرية في اليوم التالي لمجزرة مستشفى المعمداني.
لم يشارك هؤلاء الطلاب في انتفاضة يناير - فبراير 2011، ولم ير أيُّ منهم من قبل أيّ تظاهرة تناصر فلسطين، غير أن أهالي هذا الجيل تأثروا مباشرة بالانفتاح الاقتصادي ومعاهدة كامب ديفيد، وعاشوا وضع «السلام» مع «إسرائيل» لسنوات طويلة بصرف النظر عن موقفهم من المعاهدة والسلام، في حين تربّى أولادهم في كَنف سلامٍ دافئ ترعاه دولة استطاعت أن تفرض مسار التخلُّف والتبعية هذا مع انحسارٍ لممارسة السياسة في المجتمع أدَّت في النهاية إلى انفجار اجتماعي في مستهل العقد الماضي.
ملحمة «طوفان الأقصى» تجري ميدانياً بتنسيق بين قوى محور المقاومة وبتقدُّمٍ مُذهل على أرض المعركة وفي الحرب النفسية على العدو، في حين يدور فصل آخر منها يتركَّز على الذات والوعي والمعرفة؛ لم تُسقط المعركة الباسلة الجارية السردية الغربية عن العربيّ وحسب، ولم تفتح الباب أمام إعادة الاعتبار للحق الفلسطيني المنسيّ عربياً وعالمياً عن طريق معادلة «الأرض» وحسب، وإنما أعادت لوجدان جيلٍ بأكمله قضيةً تُلخِّص جميع القضايا. قضية بحجم بوصلة يمكنها أن تُعيد صياغة مفهوم المصريّ عن قضيته الوطنية أصلاً، وفتحت الباب أمام كثير من الشباب للتعرُّف إلى أبشع استعمار استيطانيّ إحلاليّ عرفته البشرية، وتاريخ صراعٍ كان الفلسطينيّ بقدراته المتواضعة في مقدّمته دائماً يثور ويُحارب ويقاوم ويؤسَر ويُهجَّر ويُستشهد نيابة عن المصريين وجميع العرب، ومن أجل المصريين وجميع العرب.

* باحث ومترجم مصري