منذ عام 2010، يواصل الاحتلال هدم قرية العراقيب في النقب المحتل، فيما يُعيد أهلها بناءها من جديد، محاولين بكلّ السبل الاحتفاظ بحقّهم في الحياة، في صراع غير منقطع تجلّى أحدث فصوله قبل أيام قليلة. وتتتابع الهجمات الإسرائيلية على القرية، بالبناء، بشكل غير معلَن، على قانون «برافر» الذي أقرّه «الكنيست» في 24 حزيران 2013 بالاعتماد على توصيات لجنة حكومية برئاسة نائب رئيس مجلس الأمن القومي السابق، إيهود برافر، بتهجير سكان العشرات من القرى الفلسطينية في صحراء النقب جنوب فلسطين، وتجميعهم في ما يسمّى «بلديات التركيز». ويعتبر الفلسطينيون هذا المشروع وجهاً جديداً لنكبتهم المستمرّة، كونه يتيح لدولة الاحتلال الاستيلاء على أكثر من 800 ألف دونم من أراضي النقب، وتهجير 40 ألفاً من 38 قرية فلسطينية لا يعترف العدو بوجودها. ومع أن دولة الاحتلال تراجعت عن «برافر» في كانون الأول 2013 نتيجة للضغوط الشعبية الفلسطينية، فإنها واصلت مسعاها التطهيري الإحلالي، وإنْ بوتيرة أخفّ وبحجج مختلفة. وتحت مسمّى «إعادة تطوير النقب»، وفي مسعًى للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من أراضي الفلسطينيين بحجّة تنظيم القرى البدوية وتأهيلها، قامت دولة الاحتلال ببسط يدها على أجزاء واسعة من تلك القرى، ومن بينها العراقيب التي تَحضر دائماً كأحد أهمّ عناوين المواجهة المفتوحة مع العدو. على أن الهدم في هذه القرية لا يقتصر على المساكن البدوية، بل يطال البناء الاجتماعي والثقافي والاقتصادي أيضاً، مستهدفاً إعادة تشكيل البدو وفق حاجات الاحتلال الاستعمارية، ومعتقداً أن مخطّطه قابل للنجاح طالما أن القوة بيديه، على رغم أن هذا المخطّط أفضى إلى إطلاق كلّ مسارات النضال ضدّه، في امتداد أصيل للمواجهات السابقة التي اندلعت في المناطق المحتلّة عام 1948، وعبر حقبات متلاحقة. وهي مواجهات تُوّج أبرزها بإسقاط مشروع «تطوير (اقرأ: تهويد) الجليل» بفعل هَبّة جماهيرية واسعة اندلعت عام 1976، وعُرفت بـ«يوم الأرض»، حيث سقط الشهداء والجرحى، وامتلأت السجون بمئات المعتقلين، وانتصر أصحاب الأرض وقتها.
تأتي الجولة الأحدث مع «الحرب» على النقب، مدفوعةً بتخوّف الاحتلال من التمدّد الجغرافي والعمراني للفلسطينيين


وتأتي الجولة الأحدث مع «الحرب» على النقب، مدفوعةً بجملة عوامل أبرزها تخوّف الاحتلال من التمدّد الجغرافي والعمراني للفلسطينيين في النقب، حيث حافظ هؤلاء على ديمومتهم، عبر الاحتفاظ بما تبقّى من أرضهم، واستصلاحها وزراعتها، وكذلك عبر النموّ السكاني الذي تضاعف عشر مرّات بعد النكبة، من 15 ألفاً إلى أكثر من 150 ألفاً. وعلى خلفية ذلك، يحاول العدو عزل الفلسطينيين عن أرضهم، وإفقادهم مقوّمات حياتهم المتمثّلة في الزراعة وتربية الماشية والرعي، وخصوصاً في قرية العراقيب، فيما يعي الفلسطينيون تماماً أن الإجهاز على قريتهم يمثّل مفتاح سيطرة الاحتلال على النقب. ولهذا، يتّخذ نضالهم هناك شكلاً ملحمياً، تتكثّف فيه الصور الدورية، وأبرزها إعادة بناء القرية 222 مرّة بعد هدمها، بالاستفادة من تطويرهم أدوات نضال تعوّض اختلال موازين القوى مع العدو، الذي باتت أساليبه مكشوفةً بالنسبة إليهم، ووسائله الناعمة مفضوحةً بنظرهم.
السؤال اليوم: هل سيتمكّن الفلسطينيون في العراقيب من الانتصار على مشاريع التهويد الزاحفة نحوهم؟ وهل يمتلكون القدرة على هذه المواجهة؟ لعلّ الإجابة تكمن في تمكّن أهالي القرية، قبل أيام، من إعادة بناء «عزلتهم» للمرّة الـ222 في غضون ثلاثة عشر عاماً، علماً أن عددهم لا يتجاوز في أعلى تقدير 800 فلسطيني. وكما مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، والذي أضحى أيقونة النضال الملحمي، تمضي العراقيب لتتحوّل إلى أيقونة أخرى في الجنوب، متابعةً نضالها حتى يسقط «برافر» وتوابعه وكلّ ما يلحق به.