«أبناء الموت»؛ وصفٌ تطلقه إسرائيل على الأشخاص الموضوعين على لائحة الاغتيال لديها، والذين يُعتبرون بالنسبة إليها أمواتاً، ولكنهم الآن أحياء لأن يدها لم تصل إليهم بعد. تستهدف دولة الاحتلال، من وراء هذه السياسة، إشغال المهدَّدين بالاغتيال بالحرص على أمنهم الذاتي، معتقدةً أن ذلك يكبّلهم ويصعّب حركتهم، وينعكس بالتالي على أدائهم المقاوم. وهي تعتقد، تالياً، أن تنفيذ الاغتيالات وتكثيفها، من شأنهما إحباط المخطّطات التي يعمل عليها أعداؤها، وتصعيب مهمّة إيجاد بُدلاء من الراحلين، عليهم.في الشقّ الأول، أي التهديد بالاغتيال، لم توقف إسرائيل، منذ معركة «سيف القدس»، التلويح بهذه السياسة ضدّ حركة «حماس»، مُهدِّدةً باستهداف رئيس المكتب السياسي للحركة في غزة، يحيى السنوار، والقائد العام لـ»كتائب القسام»، الذراع العسكرية لـ»حماس»، محمد الضيف، وأخيراً، نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، صالح العاروري. وهي تظنّ أنها بهذه التهديدات المباشرة وغير المباشرة، مِن مِثل تلك التي وجّهها وزير الطاقة الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إلى «حماس»، خلال مقابلة صحافية مع قناة «كان» أخيراً، ستؤثّر على قادة المقاومة سلباً.
لكن ما يفوت دولة الاحتلال، في الواقع، هو أن الموت فعل يومي مرافق للعمل المقاوم، واحتماليته موجودة دائماً. قد يبدو هذا الكلام شاعرياً، لكن الموت هو بالفعل أقصى ما يتمنّاه أيّ مقاوم. ولذا، تَجد المهدَّدين بالاغتيال أكثر استعداداً للبذل والعطاء من غيرهم، بل إنهم يعيشون كلّ يوم على أساس أنه الأخير في حياتهم، وبالتالي عليهم العمل فيه بأقصى طاقتهم لصالح القضية التي يؤمنون بها. ولعلّ أوضح مثال على ذلك، هو الشهيد القائد عماد مغنية، الذي كان مهدَّداً بالاغتيال طيلة 25 عاماً من أكثر من جهاز استخباراتي عالمي، ولكن هذه التهديدات لم تمنعه من العطاء في كلّ لحظة وكأنه ليس ثمّة يوم آخر، وهو ما لا يمكن لغير «ابن الموت» فعله.
في عام 2019، أعادت إسرائيل تفعيل سياسة الاغتيالات في قطاع غزة بعد توقّف دام 7 سنوات، مستهدفةً قيادات حركة «الجهاد الإسلامي»، وذلك بهدف كسر حلقة القيادة لدى التنظيم، إذ اغتالت في العام المذكور، قائد لواء الشمال في «سرايا القدس»، الذراع العسكرية للحركة، بهاء أبو العطا، توازياً مع محاولتها تصفية القائد العام لـ»السرايا»، أكرم العجوري، في العاصمة السورية دمشق، من دون أن تنجح في تحقيق هدفها. وفي أعقاب استشهاد أبو العطا، عُيّن مكانه الشهيد تيسير الجعبري الذي اغتاله العدو في آب من العام الماضي، ليَخلفه الشهيد خالد البهتيني قائداً للمنطقة الشمالية في غزة، قبل أن تغتاله إسرائيل هو الآخر في التاسع من الشهر الجاري. السيناريو نفسه تَكرّر أيضاً في المنطقة الجنوبية لقطاع غزة، حيث اغتال العدو، القيادي في «السرايا» الشهيد خالد منصور، في آب الماضي، ليحلّ بدلاً منه الشهيد جهاد غنّام الذي جرت تصفيته في التاسع من الجاري.
تسعى إسرائيل، من خلال تكثيف عمليات الاغتيال ضدّ أعضاء المجلس العسكري لـ«الجهاد» إلى شلّ القيادة العسكرية لـ«السرايا»


تسعى إسرائيل، من خلال تكثيف عمليات الاغتيال ضدّ أعضاء المجلس العسكري لـ»الجهاد» إلى شلّ القيادة العسكرية لـ»السرايا»، إذ منذ العام الماضي، وتحديداً بعد اغتيال أبو العطا في عام 2019، وحتى الآن، اغتال العدو، بشكل متتالٍ، 6 شخصيات من بين قوام هذا المجلس، وهم: الجعبري، منصور، البهتيني، غنام، الشهيد علي أبو غالي الذي اغتيل غرب مدينة خان يونس في الـ11 من الشهر الجاري، وآخرهم إياد الحسني، قائد وحدة العمليات، والذي استشهد مساء أمس في قصف إسرائيلي لمنزله في حيّ النصر في القطاع. تعتقد دولة الاحتلال أنها بهذه الوتيرة من التصفية، ستوصل «الجهاد» إلى حالة تجد معها الأخيرة صعوبة كبرى في إيجاد البديل، ما يؤدّي بالتالي إلى كسر حلقة القيادة، وهو ما صرّح به رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في العاشر من الجاري.
قد تبدو هذه الاستراتيجية ناجعة نظرياً، كونها كفيلة بتعطيل منظومة القيادة - لساعات أو لأيام -، لكن كما أَظهر الميدان، فإن اغتيال قيادات «الجهاد» لم يؤثّر على عمليات إطلاق الصواريخ أو على زخمها. فبعد اغتيال الشهيد غنام ونائبه، استمرّ الإطلاق على تل أبيب، بل وصلت الصواريخ إلى القدس المحتلّة. ولعلّ مردّ ذلك إلى أن المقاومة، سواء في لبنان أو فلسطين، شكّلت نفسها على أساس أن قادتها معرّضون للموت في أيّ لحظة، وأن تصفية فرد أو مجموعة أفراد لا يجوز أن تؤثّر طويلاً على عمل المنظومة ككلّ. لا بل ثبت أن مَن يَخلفون الراحلين قد يكونون أكثر قوّة وحضوراً وتأثيراً وفاعلية من أسلافهم، وهو ما عبّر عنه المحلّل السياسي الإسرائيلي، روغل الفر، في مقال له في الـ11 من الجاري في صحيفة «هآرتس»، توجّه فيه إلى رئيس أركان الجيش، هرتسي هاليفي، بالقول: «هل سيخاف قادة التنظيم من القيام بمهماتهم خوفاً على حياتهم؟ أنت تعلم جيّداً أن هذا ليس صحيحاً. القادة الذين اغتيلوا سيحلّ محلّهم آخرون. ومَن سيحلّ محلّهم ستكون لهم الأهداف وأساليب العمل عينها. والحال هذه، من أجل ماذا فعلت ذلك؟».
مع ذلك، لا يَخفى أن الضربات التي تلقّتها «الجهاد» في الأشهر الماضية موجعة، وأن بعض من قضوا فيها لا يمكن تعويضهم، وهو ما يستوجب إجراء مراجعة داخلية حول الأسباب والثغرات وربّما الخروقات الأمنية التي أدّت إلى تصفيتهم تباعاً. لكن أيّاً يكن، فالأكيد أن الموت لن يوقف الفعل المقاوم، وأن اعتقاد العدو بأن اغتيال قيادات من المقاومة سيعطّل مشروع تحرير فلسطين إنّما هو وهم، وفق ما أثبتته التجربة مراراً وتكراراً. فبعد اغتيال الشهيد فتحي الشقاقي جاء الدكتور رمضان شلح، وبعد اغتيال الشيخ أحمد ياسين جاء الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، وبعد الرنتيسي جاء خالد مشعل، وبعد اغتيال الأمين العام لـ»حزب الله» الشهيد عباس الموسوي جاء السيد حسن نصرالله. وبالنتيجة، فإن الدم لن يوقف تقدّمه، فيما سيبقى «أبناء الموت» يطاردون إسرائيل، أحياء كانوا أم أمواتاً.