كلّما امتدّت أذرع الاحتلال الإسرائيلي لتصفية أو اعتقال المقاومين، نهضت الأصوات المطالبة بتراجع السلطة الفلسطينية عن سياسة «التنسيق الأمني». كلٌ ينظر إلى «التنسيق» بحسب مصلحته؛ ترى السلطة فيه ضماناً لوجودها، وتجنّده، كاستراتيجية لـ«كي الوعي»، في بناء أرضية ممنهجة للرضوخ وتجفيف بؤر المقاومة، بينما يختزل الاحتلال في «تعاونه» الأمني مع السلطة كياناً يحفظ أمن دولته ويزيح عن كاهله عبء أكثر من مليونَي فلسطيني تتولّى السلطة دور الوكيل الأمني عليهم، وما يترتب عن ذلك من إسقاط لتكاليف اقتصادية وجهود استخباراتية. وما بين المنظارين، يقع مخرز المقاومة هدفاً مزدوجاً لقوات الاحتلال وأجهزة الأمن الفلسطينية.إذا كانت المقاومة جدوى مستمرّة للقضاء على الاحتلال، فيبدو أن التنسيق الأمني جدوى لاستمرار السلطة وركيزة لقيامها! في مفهوم السلطة، تَجاوز «التنسيق الأمني» مربّع الخيار. عند كل حدث، يطلّ التنسيق برأسه من خلف المشهد. لم يكن آخره اعتقال أسرى «نفق الحرية»، عندما أقدمت عناصر من أجهزة الأمن في جنين على منع الإرباك الليلي المسلّح على حاجز الجلمة في 18 أيلول الماضي، أي ليلة اعتقال الأسيرين الأخيرين، مناضل انفيعات وأيهم كممجي، في وقت كان الاشتباك المسلّح مع المقاومين على الحاجز واقعاً يومياً لم يسبق أن ظهر فيه عناصر أجهزة الأمن إلّا ليلة الاعتقال. اختتمت العملية باقتحام قوات اليمام الحي الشرقي لجنين، الأمر الذي يستدعي تنسيقاً أمنياً في منطقة واقعة تحت حكم السلطة، وهو ما رأى فيه الشارع الفلسطيني زجاً طوعياً للأسرى بزنازين الاحتلال.
ولعلّ عملية التصفية الأخيرة لعناصر المقاومة في جنين وبلدة البدو الفلسطينية في 26 أيلول، قيّحت الجرح، عندما استدعي ما قامت به أجهزة الأمن أثناء معركة «سيف القدس»، في أيار الماضي، حين اقتحمت منزل عائلة زهران لاعتقال أحمد زهران، وهو أحد الشهداء الخمسة الذين ارتقوا في مواجهات الضفة. قالت والدة الشهيد زهران يوم استشهاده: «يلّي ودّا اليهود عليّ وعلى ولادي هني السلطة، لأن السلطة ما قدرولنا قالولهم روحوا أنتو».
هذه السياسة كان قد سبق وتطرّق إليها الكاتب الإسرائيلي في صحيفة «معاريف»، جاكي خوجي، عام 2017، بالقول إنه «بفضل هذا التنسيق جرى إنقاذ حياة الكثير من الإسرائيليين، حيث توفّر إسرائيل المعلومات الاستخبارية عن خليّة مسلّحة تخطّط لتنفيذ عمليّة ما، فينطلق الأمن الفلسطيني لاعتقال أفرادها، مما يعفي إسرائيل من المخاطرة بجنودها لدى تنفيذها عمليات الاعتقال». وفوق ذلك تأكيد رسمي جاء على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، نقلاً عن «القناة 13» العبرية لاستمرارية هذا «التعاون» بقوله إن «90 في المئة من علاقتنا بالسلطة الفلسطينية حول التنسيق الأمني».

خديعة الاصطلاح
قد يتبادر إلى الذهن أن السلطة تمتلك، أقلّه، ملفاً عن المستوطنين اليهود في الضفة، أو مثلاً عن المستوطنين الذين اختطفوا الطفل محمد خضير من القدس وأجبروه على شرب البنزين وأحرقوه بعد التعذيب حيّاً عام 2014. حتى لو أرادوا ذلك، فإنه يقع خارج صلاحياتهم المرتبطة فقط بحفظ ملفات المقاومين وتحرّكاتهم. هنا، الفلسطيني لا يخرج لتنفيذ فعله المقاوم من صفوف السلطة، إنّما يخرج عليها.
المصطلح، (التنسيق الأمني)، المقبول دولياً والمبهم معناه، يُعدّ مبالغة نسبةً إلى الواقع، حيث تُقدّم السلطة خدمات عسكرية واستخبارية للعدو إلى جانب التعاون التنسقي في تبادل المعلومات. يؤكد ذلك تصريح لماجد فرج، مسؤول جهاز الاستخبارات الفلسطينية، في حديث إلى مجلة «ديفنس نيوز» الأمنية الأميركية في 2016، بأن السلطة أحبطت 200 عملية فدائية واعتقلت 100 فدائي خلال انتفاضة القدس (2015-2016)، في الوقت الذي خلّف فيه الاحتلال وراءه أكثر من 200 شهيد إبّان اجتياحه للمدن الفلسطينية.
من بين المطالب الأميركية الامتناع عن عرقلة الجهود المصرية لإرساء تهدئة في قطاع غزة


«الفلسطيني الجديد»
تاريخياً، خطا التنسيق الأمني خطواته الأولى عقب اتفاقية القاهرة عام 1994، واتفاقية طابا (أوسلو 2) عام 1995، كنتاج مباشر لما أفرزته اتفاقية أوسلو عام 1993 في بندها الثامن. لكن في الحقيقة، لا يمكن سلخ مفهوم «التنسيق الأمني» عن سياقه التاريخي، بدءاً من «فصائل السلام» نهاية الثلاثينيات، إلى حين اتخاذه مسمّى «روابط القرى» في السبعينيات، وصولاً إلى مسمّاه الحالي.
لكن ما الذي نزع العقيدة الوطنية (المفترضة) من جسد الجهاز الأمني الفلسطيني، إلى عقيدة وظيفية بالسياق الذي نعرفه؟ هناك مرحلة مفصلية أعادت هيكلة ملامح هذا الجسد، بين «هبّة النفق» (1996) والانتفاضة الثانية (2000-2005)، حين انخرط عدد كبير من عناصر الأمن في اشتباكات مسلّحة مع الجيش الإسرائيلي، وهنا يبقى اسم أبو جندل، الملازم في جهاز الأمن الوطني، حيّاً كأحد قادة معركة المخيّم في جنين عام 2002. لتصبح مسألة إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضرورة للاحتلال.
من هنا بدأت مرحلة جديدة بإعادة هيكلية المؤسسة الأمنية إلى أخرى وظيفية بحتة، فكان ظهور لـ«المنسق الأمني الأميركي» عام 2005، وليام كيب وارد، أوّل قائد للفريق الأمني الأميركي، لكن تعطّلت مهمّته في أعقاب الانسحاب الأحادي من غزة، لينطلق بعدها الجنرال كيث دايتون خلفاً له، في مهمّة لإعادة بناء وتطوير قوات الأمن الفلسطينية مهنياً. هذا في الظاهر؛ أمّا في الباطن فعمل دايتون على تدريب ما أطلق عليه «الفلسطيني الجديد»، ضمن سياسة تدجين عقلية عنصر الأمن كرجل منزوع العداء لإسرائيل.
المحاضرة التي ألقاها دايتون في ندوة لـ«معهد واشنطن»، عام 2009، بعنوان «السلام من خلال الأمن»، تختصر المهمّة بأكملها، في قوله إن مسؤولاً فلسطينياً بارزاً خَطبَ في دفعة خريجين من هؤلاء «الفلسطينيين الجدد» في الأردن: «أنتم لم تُرسَلوا هنا لتتعلّموا كيف تحاربون إسرائيل، بل لنتمكّن من العيش في أمن وسلام مع إسرائيل». وفي المحاضرة ذاتها نقل حديث ضابط إسرائيلي كبير حول توقّعاته للمستقبل بأن «التغيُّر بين الرجال الفلسطينيين الجدد في العام الماضي كان معجزةً، جيلي نما مع الانتفاضات والآن لديَّ الأمل في أن أطفالي لن يواجهوا الشيء نفسه». ضمن السياق نفسه، يشير الكاتب الأميركي ناثان ثرول، المقيم في القدس، إلى أنه، في عام 2009، شاركت القوات الفلسطينية والإسرائيلية في 1297 نشاطاً مُنسّقاً، كان أكثرها موجّهاً ضد المجموعات الفلسطينية المسلّحة، ما يُشكّل زيادة بنسبة 72 في المئة عن السنة التي سبقتها.

تهديد لم يصل مرحلة التنفيذ
إذا ما وضعنا «قدسية التنسيق الأمني الذي تتفاخر به السلطة جانباً، قد يكون إعلان قرار إيقافه والتراجع عنه سمتها الثانية. لكن إعلاناً للرئيس عباس بشخصه وقف التنسيق في أيار 2020، شكّل أبرز تلك المحطات، حين جاء ردّاً على الخطّة الأميركية للسلام في الشرق الأوسط، أو ما يعرف بـ«صفقة القرن» التي كشف عنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، مطلع عام 2020، وأعطت الاحتلال الضوء الأخضر لضمّ أجزاء واسعة من الضفة. وعلى رغم انخفاض وتيرة التنسيق العلنية بعد هذا القرار، فإن اللقاءات الأمنية بقيت مستمرّة بين قادة الأجهزة الفلسطينية والإسرائيلية، كما استمرّت الاعتقالات السياسية من قِبَل السلطة، واستجواب المعتقلين من حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، في حين لم يتوقّف الدعم المالي عن الأجهزة الأمنية. بمعنى آخر، لم يتوقّف التنسيق فعلياً بل اتخذ مساراً سرّياً. سرعان ما دخل القرار غرفة التبريد التي تحوي جثث عشرات القرارات المماثلة، حين أعلن وزير الهيئة العامّة للشؤون المدنية الفلسطينية، حسين الشيخ، في تشرين الثاني 2020، عودة التنسيق الأمني.

تواطؤ مستمر
ثمّة ارتباط من نوع آخر يجمع هنا بين السلطة والمقاومة الفلسطينية؛ كلّما ذُكر مقاوم تتجلّى السلطة بوجوه مختلفة؛ تارة كأجهزة أمن تتولّى تسليم «الإرهابيين» للاحتلال عن طريق الكشف عن مواقعهم وتعقّب تحرّكاتهم، وتارة بسلطة سياسية تخوّلها اعتقال المقاومين تحت ذرائع وطنية وسياسية. إلّا أن الهدف واحد: رصد المخلّين بأمن إسرائيل. من الشهيد باسل الأعرج، إلى قضية الشهيد أحمد جرار... الأمثلة كثيرة.
يتّضح من الإعلام العبري أنه لولا وصول معلومات لـ«الشاباك» تفيد بموقع الشهيد جرار لما تمكّنت قوات الاحتلال من تحديد موقعه. إذ قال المراسل العسكري لإذاعة «ريشت بيت» العبرية، غال بيرغر، في 6 شباط 2016 (يوم استشهاد جرار)، إن التنسيق الأمني تجسّد «في المطاردة الساخنة المشتركة لأحمد جرار، وأنه لولا التنسيق الأمني لما تم التعرّف إلى مكان جرار وتصفيته». وكشف عن حجم التنسيق في العملية، إذ تلقّت قوات الاحتلال ما يقرب «80 في المئة من المعلومات من خلال وحدة التنصّت الإلكترونية التابعة للاستخبارات الفلسطينية بقيادة العميد بهاء بعلوشة»، موضحاً أن «الوحدة عمدت إلى مراقبة هواتف أقرباء وأصدقاء أحمد جرار، ودوائر أخرى يمكن أن تتّصل بجرار».
وفي الآونة الأخيرة، تحديداً في أيّار الماضي، شاركت الأجهزة الأمنية في البحث عن منتصر شلبي، منفِّذ عملية إطلاق نار على حاجز زعترة في نابلس، حيث داهمت منزله بحثاً عنه، وعملت على البحث عن السيارة التي استخدمها في عمليّته قبل أن تجدها، لتمهّد الطريق أمام قوات الاحتلال التي حاصرت منزله واعتقلته!