تحتلّ الأحزاب الدينية مركزاً مهمّاً في الحلبة السياسية الإسرائيلية. وعلى رغم أنها لم تستطِع مجتمعةً الحصول على غالبية مقاعد «الكنيست»، إلّا أنها باتت في العقود الأخيرة تلعب في معظم الأحيان دوراً حاسماً في بناء الائتلافات وحتّى في إسقاطها. ولا شكّ في أن لهذه الأحزاب تأثيراً كبيراً في ازدياد سلطة الأصولية اليهودية، وحَمْل الحكومات الإسرائيلية على تبنّي مواقف أكثر تطرّفاً. وغالباً ما تضطر الأحزاب «العلمانية» في رئاسة الحكومة، كـ«حزب الليكود»، إلى تقديم تنازلات للأحزاب الدينية ودعم مؤسّساتها بمخصَّصات مالية لنَيل رضاها. وهو ما اعترف به رئيس الحكومة الأسبق، إسحق شامير، في مذكّراته، حين قال: «كنّا مرغمين على التعايش مع الأحزاب الدينية منذ قيام الدولة».بدأ بروز الأحزاب الدينية في انتخابات «الكنيست» عام 1988، وإن كان وجودها يسبق ذلك التاريخ؛ إذ تُعدُّ من الأحزاب التاريخية التي نشأت خارج فلسطين، وتمدَّدت إلى داخلها في أعقاب موجات الهجرة اليهودية، لتتحوّل، بمرور الزمن، إلى مركز رئيسيّ لنشاطها. وكانت البداية بتأسيس تكتُّل «همزراحي» عام 1902 إثر انشقاق بعض المتديّنين عن «المنظّمة الصهيونية العالمية». وبتأسيس كيان الاحتلال، عانى الزعماء الصهاينة الأوائل من الأحزاب الدينية التي تعايشت مع الدولة بدلاً من أن تندمج فيها، كونها تطالب خصوصاً بخلق مجتمع «قائم على الحكم الديني»، وبشكل عام لا تولي اهتماماً للسياسة الخارجية، على رغم أنها معنيّة بالاتصال مع العالم اليهودي في الخارج للحصول على التمويل للإبقاء على توسيع معاهدها وندواتها الدينية. وتتراوح مواقف هذه الأحزاب ما بين رفض الصهيونية ومناهضتها، بالنظر إلى اعتقاد بعضها بأن «دولة إسرائيل» ما هي إلّا ظاهرة زائلة، وبأن الصهيونية ستبطُل عندما يصل المسيح المنتظَر. وتنتمي جميع الأحزاب الدينية في إسرائيل إلى التيار الأرثوذكسي (لا توجد أحزاب تمثِّل التيارَين الإصلاحي والمحافظ)، وهي تنقسم إلى معسكرين: الأوّل «المتدينون الصهاينة»، ومرجعهم الديني دار الحاخامية الرئيسية، وكان ممثّلهم «حزب المفدال»؛ والثاني «المتدينون اليهود» ويسمَّون «حريديم»، ويمثّلهم حزبا «يهودت هتوراه» و«شاس»، ومرجعهم الديني «مجلس كبار علماء التوراة».
ويُعدُّ حزبا «شاس» و«يهودت هتوراه» من أبرز الأحزاب الحريدية التي تخوص انتخابات الكنيست الـ 24.

«شاس»
كلمة «شاس» هي اختصار لـ«شومري توراه سفارديم»، أي «حرّاس التوراة السفارديم». أَسَّس الحزبَ الحاخام العراقي الأصل، عوفاديا يوسف، عام 1984. ويمثِّل الحزب يهود «طائفة السفارديم»، أي اليهود الشرقيون (منهم يهود الدول العربية) الذين يعتنقون العقيدة والطقوس اليهودية السفاردية، ويقابلهم اليهود «الأشكناز» الذين ينحدرون من الدول الغربية ويتبعون طقوس الكنيس الألماني. وقد عانى اليهود الشرقيون لعقود من سياسات تمييزية وإقصائية من قِبَل الحكومات الإسرائيلية التي مثَّلتها النخبة الأشكنازية، ووصل هذا التهميش إلى الأحزاب «الحريدية» التي أقصت «السفارديم» عن المشاركة السياسية. إذ انشقّ «شاس» عن الحزب الديني «أغودات يسرائيل»، احتجاجاً على تهميش القيادات الدينية «السفاردية»، التي لم تحصل على تمثيل في «الكنيست» من خلال قائمة حزب «أغودات يسرائيل»، ولم يكن لأيّ حاخام شرقي المكانة التي يحظى بها أيّ حاخام أشكنازي. وبذلك، فإن حزب «شاس» ظهر إلى الوجود لمهمّة اجتماعية، وهي تحسين أوضاع اليهود الشرقيين، فيما يعتمد في خطابه على عقدة الاضطهاد السائدة بين غالبية ذوي الأصول الشرقية في المجتمع الإسرائيلي.
تقوم مبادئ حزب «شاس» على اعتبار إسرائيل «دولةً للشعب اليهودي»


لا يتبع هذا الحزب القواعد الحزبية المتعارَف عليها عند تشكيل قاعدته التحتية من كوادر وقيادات، إذ يتمّ تسيير أموره من خلال «مجلس حكماء التوراة»، كما تُحدِّد مرجعياته الدينية ترتيب القائمة الانتخابية. وللحزب زعيمان، أحدهما روحي وهو الحاخام عوفاديا يوسف، وابنه ديفيد يوسف الذي خلفه بعد وفاته عام 2013؛ والآخر سياسي هو آرييه درعي المغربي الأصل. ويتوزّع جمهور الناخبين للحزب بين المتديّنين الأرثوذكسيين الشرقيين وبين القواعد الاجتماعية الفقيرة من اليهود ذوي الأصول الشرقية. وتقوم مبادئه على اعتبار إسرائيل «دولةً للشعب اليهودي»؛ ولذا، فلا بد من إضفاء الصبغة اليهودية عليها بإرساء قواعد الدولة والمجتمع على أُسس التوراة. وهو ما يعني أن الحزب يركّز على القضايا الدينية، ويشدد على قدسيّة السبت والأعياد الدينية، ويُطالب بتشجيع طلاب المدارس الدينية وعدم إجبارهم على الخدمة في الجيش، ويرفض تجنيد الفتيات، كما يُرجع أي كوارث تَحلّ بالمجتمع إلى عدم الالتزام الديني. وينادي في برامجه الانتخابية بتعزيز العدالة الاجتماعية وتحقيق السلام والتسامح بين الطوائف اليهودية.
انخرط «شاس» في القضايا المتعلّقة بالصراع العربي - الإسرائيلي، واحتاجت مواقفه في هذا المجال إلى مباركة «مجلس حكماء التوراة». وينطلق برنامجه السياسي من اعتبار «أرض إسرائيل كلّها تابعة لشعب إسرائيل تبعاً للتوراة»، وهذا يعني أنه يعارض، نظريّاً، الانسحاب من الضفة الغربية، ويرفض إيقاف الاستيطان، ويعارض قيام «دولة فلسطينية». وعلى رغم أن «شاس» يؤيّد التفاوض مع الفلسطينيين، إلّا أنه يرفض أيّ تفاوض حول مستقبل القدس. في المقابل، يتّسم الحزب بمواقفه المتناقضة، السلمية تارة واليمينية تارة أخرى. إذ تُسجَّل لزعيمه الروحي، الحاخام عوفاديا يوسف، مواقف «معتدلة»، منها دعم مناحيم بيغن في توقيع اتفاقية «السلام» مع مصر عام 1979، ولقاؤه في عام 1989 الرئيس المصري حسني مبارك في القاهرة، وقوله إن «حياة الإنسان أغلى وأثمن بكثير من قيمة الأرض، فمِن أجل إنقاذ اليهود يجب إرجاع الأراضي الفلسطينية ومبادلة الأرض بالسلام». في المقابل، تتمثّل المواقف اليمينية للحزب بموقف معارض لتوقيع اتفاقيات «أوسلو» (1995)، ومفاوضات «كامب ديفيد» (2000)، والانسحاب الأحادي الجانب من غزة (2005).
لعب «شاس» دوراً فاعلاً في الحياة السياسية، إذ حصل في أوّل انتخابات خاضها عام 1985 على أربعة مقاعد، ليتحوّل إلى رقم صعب في الائتلافات الحكومية. فمنذ تأسيسه، شارك في معظم الحكومات، باستثناء حكومة شمعون بيريز (1996)، وحكومة آرييل شارون (2003)، وحكومة بنيامين نتنياهو (2013). ويشترط الحزب لدخول الائتلافات، الحصول على الدعم الحكومي لتغطية نفقات جمعياته التي تقدِّم خدمات اجتماعية وتربوية لآلاف الإسرائيليين. وبدا «شاس» شريكاً أساسياً لـ«الليكود» منذ حكومة إسحاق شامير عام 1988، حيث عرقل جهود زعيم «حزب العمل»، بيريز، لتشكيل حكومته بسبب سياسته «السلمية» تجاه الفلسطينيين. وفي عام 1990، نشب خلاف داخل الحزب في شأن الدخول في ائتلاف مع «حزب الليكود» أو «حزب العمل»؛ إذ أيّد الزعيم السياسي لـ«شاس» آنذاك، إسحق بيرتس، التحالف مع «الليكود»، بينما أيّد الحاخام يوسف التحالف مع «العمل». وإثر انضمام «شاس» إلى حكومة رابين، قدَّم بيرتس استقالته. وفي أعقاب انتخابات 1999، أصبح «شاس» القوّة الدينية الأولى والسياسية الثالثة في إسرائيل، بحصوله على 17 مقعداً في «الكنيست».
يرأس «شاس» أحد أكثر الشخصيات السياسية فساداً، وهو أرييه درعي، الذي استقال من منصبه ليقبع في السجن لأكثر من عامَين. وقد تولّى درعي منصب وزير الداخلية عام 1988، وحافظ على منصبه حتى عام 1992. وعقب صدور نتائج انتخابات «الكنيست» عام 1999، استقال من عضويتها، بعدما حُكم عليه بالسجن بتهمة الحصول على رشى والتهرب من الضرائب واستغلال منصبه. وعاد درعي إلى الحلبة السياسية في عام 2012، ليرأس الحزب من جديد، لكنه استقال من منصب وزارة التجارة والصناعة، عام 2015، لرفضه استخدام صلاحياته لتسهيل إبرام اتفاقية مع مجموعة «نوبل إنرجي» للطاقة لتطوير حقل «ليفياثان» قبالة البحر المتوسط. وظهر اسم درعي مجدداً في قضية فساد عام 2019، حين أوصى المدعي العام بتقديمه للمحاكمة بتهمة «خيانة أمانة»، وارتكاب مخالفات ضريبية، وتبييض أموال، وتقديم بيانات كاذبة. وقد تعهّد درعي، قبل بدء الحملة الانتخابية، بدعم نتنياهو في تشكيل الحكومة المقبلة، معلناً أن «شاس لن يذهب إلى أيّ حكومة غير معسكر اليمين».