عندما نتحدث عن المقامات الإسلامية في فلسطين، ليس المقصود فقط مواقع معروفة مثل مدافن الأنبياء أو «الأولياء» بمعنى الأفراد الصالحين، بل أيضاً كلّ مكان من مزار وقبر وشجرة وجنينة وجَنْبَة وكهف ونبع وصخرة وحجر وتحويطة، لهم علاقة بموضوع المقال، سواء كانوا مقدّسين أم مرتبطين بخرافات وأوهام. لكن ليست المقامات جميعها تحظى بالمكانة العليا، حيث نرى أن قلّة منها تحظى بمكانة قدسية لدى البداة، لكن ليس لدى أهل البلدات أو القرى القريبة منها. وثمة مقامات تحظى بمكانة عليا في خارج فلسطين، كما سنرى لاحقاً.
أينما نظرت في فلسطين تجد أمكنة مقدسة: في القرى وفي الحقول وفي البراري، في الجبال وفي الوديان. وفي معظم الأحيان يعثر المرء على جامع قريب من المقام، حيث يتوافد المؤمنون إليه للتعبّد لله. فعلى سبيل المثال، نجد في قرية عورتا 14 مقاماً، 11 منها تقع في داخل القرية وثلاثة في خارجها، وهذا يتكرّر في قرى وبلدات أخرى مثل عناتا والعيسوية وقولونيا وغيرها. يلاحظ المرء أنّ المقامات عادة ما بُنيت في أعالي الجبال، كي ترى من على بعد، مثل النبي صموئيل والشيخ القطرواني والشيخ أحمد الكركي الطيار في قرية القسطل، وأبو هريرة في وادي الشريعة، والعُزير في عورتا والشيخ العُمَري في بيت عنان، حيث يمكن من هناك رؤية كل من يافا واللد والرملة وسهولها، وكذلك البحر الأبيض المتوسط، والمصعد في جبل الزيتون والشيخ جراح بالقرب من مدينة القدس، ومقام الخضر في نابلس مكتوب داخله: «عُمِّر هذا المسيجد أيام السلطان الملك سيف الدين قلاون الصالح عزَّه الله ووالده السلطان الصالح علا الدين عز نصره».
أي إنه تمّ اختيار أمكنة المقامات قرب القرى، ولا يعني ذلك إطلاقاً أنّ التل أو الهضبة أو الجبل مقدّس. أما إذا وقعت في أراضي منخفضة، مثل عند تقاطع وديان أو ينابيع أو جداول، فيتم إقامتها في أمكنة يراها الناظر من مسافات بعيدة، بما يؤكد وظيفتها الاجتماعية أيضاً، إما لاستراحة المسافر أو لتناول الطعام، وتُعرف باسم «المضافة»، وهكذا. فعلى سبيل المثال، نجد في مقام أريحا حسن الراعي، بالقرب من النبي موسى، النقش الآتي: «أنشأ هذه القبة المباركة علي حسن الراعي قدس سره صاحب الخير محمد باشا حين أتى من استقبال حجاج المسلمين فشرع في البناء فلم يلقَ ماءً فبعلو همته حفظه الله تعالى نقل الماء على البلد من قرية أريحا وحصل الثواب سنة 1 ربيع عشر وماية وألف». كما يلحظ المرء أنّ قبور الرجال الصالحين تقع في أغلب الأحيان وسط المدن أو البلدات، مثل مقامات الطور (6) وأريحا (6)، ومنها «النبي موسى» وشعفاط (4) وصور باهر (4) وعناتا (7).
أينما نظرت في فلسطين تجد أمكنة مقدسة: في القرى وفي الحقول وفي البراري في الجبال وفي الوديان
وثمة مقامات قرب مواقع أثرية، مثل القطرواني بالقرب من كنيسة على تخوم قرية بير زيت، وذو الكفل بالقرب من خربة الكفيرة ومقام عبد العزيز الواقع بين قريتي القسطل وبيت سوريك، إلى جانب نبع عتيق وفق علماء الآثار، وقبر ستنا الشامية بالقرب من نبع عتيق، وفق المصدر نفسه. هنا وجب لفت الانتباه إلى أن الأشجار القائمة إلى جانب المقامات ليست مقدسة بحد ذاتها، وإنما تنال مكانتها من المقام. ويلاحظ أنّ فائدة بعضها غذائي مثل أشجار التين والصبر والرمان والجميز والدوالي والخروب وغيرها.
كذلك، يعثر المرء على مقامات عبارة عن حجارة مرتبة على شكل دوائر تسمّى الحويطية ومفردها الحويطة (انظر التعبير الشعبي: حوطك بالله)، ومنها حويطية الشيخة امبركة في قلنديا والشيخ فرج في بين حنينا. ومن الجدير بالذكر هنا، وجود حويطية مسيحية مشابهة، ومنها على سبيل الذكر المرتبط بالنبي الخضر (st. george) بالقرب من بيت جالا. وثمة حويطية أخرى هي النبي دانيال تقع وسط كرم بين قريتي الخضر وأرطاس.
ويعثر المرء أيضاً على ينابيع تحظى بمكانة عليا لدى السكان، ومنها عين الشريف وعين إم دراج في سلوان، وعين الحمّام في القدس وعين النوباني في نابلس وعين الجوز في رام الله وعين أرطاس في القرية بالاسم وعين عونا (st. mary) في بيت جالا وعين الحجر في دير الغسَّانة، وحمام الدرادجة في نابلس ومرتبط ذكره بالنبي الخضر، وحمام ستي مريم مرتبط بالسيدة مريم العذراء، وحمام الشفا، وبير أيوب المرتبطين بالنبي أيوب، وبير سنجيل المرتبط بالنبي يوسف، وعين كارم المرتبط بالسيدة العذراء، وهكذا. إضافة إلى ما سبق، ثمة أشجار مرتبطة باسم نبي أو رجل صالح، منها زيتونة النبي في حرم الشريف ونخلة مار سابا وشجرة زيتون في الجثمانية وشجرة زيتون في بيت ساحور. ومن الجدير بالذكر وجود مقامات حظيت بدعم سلاطين مختلفين، ولكن نكتفي بما سبق ذكره ونوجّه نظرنا نحو مقامات إسلامية أخرى، ومنها الصوفية والبهائية والشيعية والدرزية.
أشار الجغرافي العربي الدمشقي (1256 ـــــ 1327) إلى «مشهد النصر» أعلى جبل حطين، حيث بني في عهد الناصر صلاح الدين قبة تسمى قبة النصر، لتخليد انتصاره على الفرنجة في معركة حطين. وثمة شهادة من حجاج مسيحيين على وجود ذلك النصب، الذي بقي قائماً حتى القرن التاسع عشر. أما المقامات التي حظيت برعاية سلطانية الظاهر بيبرس، فهي النبي موسى في غور الأردن، ومقام أبي هريرة في يبنة، وحرم سيدنا علي في أرسوف، حيث صلى الظاهر بيبرس في المكان، ونذر أن يرعاه في حال انتصاره على الفرنج. أما الزوايا الصوفية، والتي تسمى أيضاً رباط وخَنَقَة، فثمة العديد منها، علماً بأنّ فلسطين كانت مقر ما لا يقل عن 11 طريقة، منها القادرية (محمد أبو العون ـــــ ثمة مسجد باسمه في مدينة الرملة ويضم رفاته ورفات زوجه)، والتي جلبها شهاب الدين أحمد المعروف أيضاً باسم ابن أرسلان، والرفاعية والدسوقية والأحمدية والشاذلية واليونسية والمولوية وغيرها. وثمّة أيضاً مقام دير الشيخ في وادي النسور جنوب غربي مدينة القدس، الذي يحوي رفات السطان بدر، وكذلك مقام اليشرطية في عكا، ومقام الصحابي أبي عبيدة في عمواس حيث توفي أيام الطاعون الذي انتشر في البلاد حينئذ.
أما المقامات الشيعية، فمنها المشهد الذي أقيم في عسقلان لوضع رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما، والذي استشهد في كربلاء في العاشر من تشرين الأول / أكتوبر عام 680، لكنّه أرسل إلى دمشق حيث حفظ في الجامع الأموي بالقرب من رفات النبي يحيى أو يوحنا المعمدان. وثمة مقام النبي يوشع الواقع في شمال فلسطين بالقرب من الحدود اللبنانية.
أما المقامات الدرزية، فمنها مقام النبي شعيب الواقع قرب حطين. وثمة رواية بأنّ صلاح الدين الأيوبي أمر الشيخ عماد الدين، أحد أبناء الحكام الفاطميين، برعاية المقام الذي زاره العديد من المؤرّخين والحجّاج والجغرافيين العرب وغير العرب. وثمة مقامان بهائيان رئيسيان في فلسطين، هما قبر بهاء الله في عكا وقبور عائلته، وقبر الباب علي محمد الشيرازي. وثمة مقامات أخرى قام العدو الصهيوني بتدميرها، في عام 1948، وما بعد ذلك، ومنها مقام النبي الكفل، ومقام النبي بولس وغيرهما.
نكتفي بهذا القدر، علماً بأن المراجع تحوي عشرات المواقع الأخرى، وحتى صوراً لها ومخططاتها. ما يهمنا ختاماً، توضيح أنّ فلسطين، أرض المقدّسات، حظِيت بمكانة خاصة لدى العرب والمسلمين شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، نجد عرضاً مفصّلاً لها في مؤلّف «فضائل القدس» الآنف الذكر، وليس بإمكان أيٍّ كان أن يجرّدها من موقعها التاريخي، الضاربة جذوره في عمق تاريخنا.