لعلّ من بين كلّ أعوامها السبعين ونيّف، لذكرى نكبة 1948 هذا العام بالتحديد، مذاقٌ مغاير... لماذا؟ نظرة طائرٍ على فلسطين وما حولها، عند ذكراها الحالّة، تُري الناظر حزمة مشاهد كونية وإقليمية ومحلية، فيها من التداخل ما يوجب استدخالها في استشراف طيّات القادم:1 ــــ شلل «كوروني»، جزئي أو نسبي، لقدرات القوى الكبرى في خوض صراعات حاميةٍ أو حتى فاترة، سواء بينها أم بين حلفائها الإقليميين، وانعكاس ذلك على مسرح الحوادث تهدئةً أو «تباعد» اشتباك.
2 ــــ تداعٍ اقتصادي يعمّ المنطقة، بفعل عاملَي سقوط سعر النفط والوباء الـ«كوروني»... لا يوفّر غنيةً أو فقيرةً من كياناتها، بل ينيخ بكلكله على مستقبلها، القريب منه والبعيد.
3 ــــ ميزان قوىً رجراج في المنطقة، لا يسمح لقوة إقليمية بحسم الصراع لصالحها على حساب غيرها:
إسرائيل، أعجز عن كسر إيران، أو حليفاتها، حتى إن قدِرت على إيذائها سورياً، وقدِرت راعيتها، الولايات المتحدة، على إنهاكها بحصار العقوبات. في المقابل، نراها تتحضّر لالتهام جغرافيا القدس والمستوطنات والأغوار، بالتواطؤ مع الدولة الأميركية الترامبية، تحت اعتقاد أنّ جو الوباء كفيلٌ بشلّ أحدٍ عن فعل صدٍّ أو منعٍ أو كبحٍ.
تركيا، غير قادرة على إنفاذ رغائبها في الشمال السوري، من دون تمكين روسي وسكون أميركي، ناهيك بانكشاف اقتصادها أمام غائلة غارات خصوم الخليج وغيرهم، بسعي ضرب اقتصادها ولَيِّ ذراعها استراتيجياً. في المقابل، نراها تعوّض محدودية نجاحها السوري، عبر العقد المنصرم، بمطاولةٍ عابرةٍ لشرق المتوسط، و«متشاطئة» مع ليبيا غازاً ونفطاً.
السعودية، مكسورة في أعزّ ما تملك: مال النفط؛ مستنزفة بعبثها الحربي في اليمن، قليلة حيلة أمام من تعتبره خصمها التليد: إيران، وخاسرة في الشمال العربي. في المقابل، هي بين بين في الساحة الليبية، وممسكة بأعنة القرار المصري، بالشراكة مع حليفتها الإماراتية.
إيران، محاصَرة حتى الثمالة في معاشها، معوقة سورياً، متساكنة مع شيطانها التليد في العراق، وحتى لبنان، ومحاطة بسوار قواعد أميركية في البر والبحر. في المقابل، عندها من مقدرة المصابرة والدفع ما كسر مشعر غينيس.
طيّب، لنرَ كيف هو المؤثر الدولي عندنا: في الخلفية شبح الوباء المقعِد، للكل. هذا في عموم. أما في خصوص، فلم يعد هناك ما تستطيع الولايات المتحدة فرضه بالقوة، لا بل إنّ عملية إعادة تموضعِ لقدراتها قد بدأت قبل الوباء، وها قد تسارعت بعده، محفّزةً بنتائج ما سبق من فرط تمدد، بدّد 8 تريليون دولار في مجروره، وبدّد معه عشرية بكاملها، هي أولى عشريات القرن. والشراكة الروسية ـــــ الصينية ما زالت أقدر على الإعاقة منها على الفرض، سواء بالاختيار صينياً ـــــ وهو الآن آيل ـــــ أم بالاضطرار روسياً.
كيف ينعكس ذلك كله في، وعلى فلسطين الآن؟ من منظور اليمين الإسرائيلي (وإسرائيل كلّها الآن يمين... لكنّه قبلي ومحترب، فتوراً الآن وربما سخونةً ذات وقت)، ورديفه الترامبي، فشلل الوباء سانحٌ لقفزة ضمٍّ ما فتئ الأول يتلمّظ عليها لعقود، ويعقد الثاني عزمه على نصرته، إنْ من زاوية تمكين إسرائيل وكيلاً إقليمياً، أم لجهة تلبية مطلب بيئته الانتخابية المزمن... هذا في النية. طيّب، ما هي فاعلةٌ الإقليميات الثلاثة، سوى إسرائيل... والكونيتان، سوى الولايات المتحدة... وأضيف، أوروبا؟
برغم إقعاد الوباء العمومي، إلا أنّ الإقليمي الأكثر فعّالية فلسطينياً هو إيران، وعلى مسارح متعدّدة: سوريا ولبنان وغزة. ذلك أنها، ببساطة، من انكبّ ـــــ وما انفكّ ـــــ على بناء منظومة صاروخية، نوعية كما كمّية، عبر الشمال العربي، مع صلةٍ بغزّة، وعبر سنوات سبع ونيّف، صارت توفّر قدرة ردع ما قبل ـــــ متكافئة، وتكاد تشطب قدرة إسرائيل على شنّ حرب هجومية على المحيط. لكنّ إيران وحليفاتها، لم تبلغ بعد حدّ القدرة على كبح نية إسرائيل ضمّ نصف الضفة الغربية. ما الذي ينقص؟ غياب شريك عربي مركزي، واضطراب العلاقة الإيرانية ـــــ التركية سورياً، وافتقاد سند دولي فارق.
أين السعودية اليوم؟ هي تجرّب رفقة طريق مع إسرائيل، بظنّ أنْ تقيها من «غائلة» إيران، في مقامرة غير محسوبة للتيار المتنفّذ في العشيرة الحاكمة، وكفيلةٍ، مع انكسار «رؤية» هذا التيار، بنضوب خزائنه نفطياً وشعائرياً، وبخسائره اليمنية الفادحة، أن تهزّ الأرض من تحته، بغضّ النظر عن أي أثر لغواية اللهو والمِتع بعد طول تضييق. ذات الحال يسري على محيطها، وعلى «مصرها».
وبعلم أنّ تركيا، مِثلها مثل إيران، لا ترتفع مقاماً كقوة إقليمية إلا بخفض مقام إسرائيل، وبه فقط تصبحان «عُظمَيين» لا عاديتين... إلا أنّ إشغال تركيا نفسها في متاهةٍ سوريةٍ من صنع يديها، وبخطايا حساب أحمق أجراه صنّاع قرارها في خريف 2011، قد كفّ قدرتها على أن تكون وازنة كفايةً قبالة إسرائيل فلسطينياً، رغم اشتغالها على الناحية العقارية في القدس وغيرها، وبحساب عونها السياسي والإعلامي. ما تحتاج إليه هو أن تدرك، لتوّها، مركزية تنزيل إسرائيل من عليائها، عن أي شأن مشرقي آخر. لقائل أن يقول: وكيف لتركيا أن تفيق إلى واجبها الفلسطيني وهي مكبّلة بقيود ناتوية؟ والحال أنْ ليس من قيود تكبّل، وصفقة «س 400» شاهدة.
في الكوني، هناك مسألة أقيس عليها ابتداءً: لا ترى إسرائيل في روسيا أو الصين، حليفاً أو شريكاً أو صديقاً. من ينفرد بامتلاك هذه الصفات وأكثر (الراعي)، هي الولايات المتحدة. روسيا والصين، هما عند إسرائيل مشروعا تنافع، وفي حالة روسيا بالذات طرفٌ تدير معه ترتيبات منع اشتباك... ولا تني الولايات المتحدة تذكّر إسرائيل بسقفها الواطئ لمنسوب التنافع. كلتاهما ترى في ضمّ نصف الضفة، تخريباً لحلٍّ في فلسطين طالما تاقتا إليه، وعسفاً وخيماً بظلامة شعبها لن يلبث أن يوقد النار في غرب آسيا. لكن تنطّحهما لدور معيق، يحتّ من جموح الولايات المتحدة، لا يتصلّب عوداً إلا باستناده إلى جدار إقليمي صلد، أي تركو ـــــ إيراني، والذي صار أكثر إمكانية وسط تحديات الوباء واصطفافاته. يُضاف إلى ذلك، توق الصين بالذات إلى تعرّض «إيجابي» للولايات المتحدة، وليس أعزّ من جبهة لها من إسرائيلها، سيما وأمر خسفها الصلة الصينية ــــــ الإسرائيلية صار في التداول. أوروبا الرسمية، في المقابل، لا تجيد إلا الخنوع أمام الأميركو ــــــ إسرائيلي عند الحزّة واللزّة، لكنّ مجتمعاتها في مكان آخر، وسيحفزها في الضغط على رسمياتها شعورها أنّ تماسك المحلّي والإقليمي والأوراسي يتجسّد.
طيّب، هل لقوى الضفة ذاتها من وزن في هذه المعادلة؟ يصح القطع بانعدام ثقة الشعب الفلسطيني في الضفة بقياداتها المتنفّذة، بل وفي ذلك سر تورعه عن إلقاء ثقله في الصراع ثانيةً، طالما تثقل كاهله وتعوق فطرته. شرط عودته ليصبح الرقم الصعب في معادلة الصراع، اضطرارها أن تنزاح عن طريقه، بما فيه نزع قيد أمنها عن رسغه، وإخلاء حاجزه الحارس للاحتلال، وتحوّلها إلى محض سلطة بلدية محلية لا صفة سياسية لها. أول الأوليات، ألا تُترك لتقع في درك غواية الترامبية لها بالتقدّم بمقترح بديل، بل أن تُجبر على التمنّع، ولو اللفظي. إنّ هناك الآن فرصة من أشهر، ألحظ بصددها العوامل التالية:
المؤسسة الأمنية ــــــ العسكرية لإسرائيل خاشية ومحذّرة من عقابيل الضمّ. محميات مصر والخليج تتوسّل براعيها الترامبي، أن يتمهّل في الإذن بالضمّ خشية ما يفرز من عواقب. منظومة الأمن القومي الأميركي تعارض وتُنذر. اليهودية الأميركية منشرخة نصفين، أحدهما معارض. الأردن يتحسّس رقبته. أوروبا تضرب كفّاً بكفّ، فما غرب آسيا إلا رمية حجر. وعليه، فما كان من ضوء أخضر صار أصفر.
طيّب، كيف نحوّل الأصفر إلى أحمر؟ نقطة البداية هي عند «نخب» كلّ فلسطين، فإن التقت على قاسم مشترك أدنى، من دحر الاحتلال واستعادة الضفة، وفق برنامج عملاني، وأطلقت دعوة تقريب «سوري» بين إيران وتركيا يوقف الحرب، وبرهنت لنفسها أولاً، ثم لإيران وتركيا، وخلفهما لروسيا والصين، أنها رافعة داخلٍ وطوق، فتكاملت بها وبهم أساسات سندٍ من فولاذ، صار لزوماً للأطراف الإسرائيلية والأميركية والأوروبية أن تشعل الأحمر.
ولكن... إن أضعنا هذه الأشهر الدانية، فنكون كمن جدّد النكبة.