رداً على تواصل الاعتداءات الإسرائيلية التي تهدف إلى محاولة فرض معادلة جديدة مع قطاع غزة، تعرضت المستوطنات المحيطة بالقطاع إلى أكبر صليات قذائف منذ انتهاء العدوان الإسرائيلي، «الجرف الصلب»، عام 2014. في المقابل، ردّت إسرائيل بتصعيد اعتداءاتها، لكن أعقبتها ردود صاروخية فلسطينية (تخطّت المئة) كانت كافية لإيصال رسالة صريحة وواضحة إلى صناع القرار السياسي والأمني في تل أبيب، مفادها بأن ظروف القطاع الصعبة لا يعني أن إسرائيل تستطيع أن تستبيحه في اعتداءاتها من دون أن تتلقى ردوداً. وفي الوقت نفسه، كشفت الاعتداءات الإسرائيلية عن قيود تل أبيب النابعة من محدودية خياراتها وقلقها من الأثمان المؤلمة، وأولوياتها المتركزة على جبهات أخرى. كان واضحاً منذ اللحظات الأولى أن قذائف الهاون الفلسطينية، ثم الصواريخ، التي تساقطت على مستوطنات «غلاف غزة»، لا سيما المواقع العسكرية، لم تكن بهدف الدفع نحو مواجهة واسعة بين إسرائيل والمقاومة، إنما بعدما باتت ضرورة ملحة في أعقاب إدراك الفصائل الفلسطينية أن السكوت على تمادي العدو في اعتداءاته سوف يغريه نحو مزيد من الاعتداءات التصاعدية، وهو ما فرض عليها اللجوء إلى خيار يهدف إلى ردع العدو، حتى لو كان مكلفاً.استند قرار الرد – الرسالة إلى تجارب عدة ثبت فيها أن الامتناع عن الرد المؤلم للعدو، أياً كانت أسبابه ومبرراته، دفعه إلى مواصلة اعتداءاته بل الارتقاء فيها. وبهدف الحفاظ على الوضع الأمني في القطاع اتّبعت المقاومة الفلسطينية سياسة رد مدروس في وسائله ومداه وأهدافه، وهو ما عكس قراراً دقيقاً في محاولة الجمع بين إيصال رسالة ردع جدية، وعدم حشر تل أبيب نحو ردود بعيدة المدى تستدرج رداً تناسبياً يؤدي بدوره إلى تدحرج نحو مواجهة واسعة.
لا شك أن الرد الفلسطيني فاجأ قيادة الاحتلال التي كانت تقدّر أن ظروف القطاع المختلفة تلقي بثقلها على قيادة المقاومة وتقيّدها عن الرد الجاد والفاعل، وهو ما وضعها أمام خيارات محدّدة ومحدودة؛ فمن جهة لا تستطيع إسرائيل تجاهل الرد الفلسطيني وتحديداً في ظل السقف السياسي المرتفع الذي تتبناه حكومة اليمين في مواجهة الفلسطينيين وتباهيها بتفوق الردع نتيجة السياسة العملانية التي تتبعها.
في المقابل، يوجد أكثر من دافع لقيادة العدو لتجنب ردود دراماتيكية واسعة، أولها إدراكها بأن فصائل المقاومة في غزة تملك القدرة والإرادة في الرد على تجاوز سقوف محدّدة من الاعتداءات، بل هذا ما عزَّزته أيضاً القذائف الصاروخية التي استهدفت المستوطنات. في ضوء ذلك، هذا النوع من الردود الإسرائيلية الدراماتيكية سوف يؤدي إلى مواجهة واسعة لا تريدها إسرائيل وتحديداً في هذه المرحلة. وتأكد هذا الحرص الإسرائيلي مرة أخرى، أمس، من خلال العديد من التقارير الإعلامية، والمصادر السياسية، في أن وجهة تل أبيب ليست نحو التصعيد. ويستند هذا الحرص إلى أن العديد من الجولات القتالية السابقة أثبتت تعذّر إمكانية الحسم السريع عبر النيران عن بعد، في الجو والبر والبحر، وتكشَّف ذلك جلياً في العدوان الذي استمر 51 يوماً في العام 2014.
في المقابل، خيار الاجتياح البري للقطاع فضلاً عن كونه مكلفاً جداً لجنود الاحتلال، سوف يؤدي إلى غرق إسرائيل في مستنقع لن يكون بالإمكان توقع مآلاته السياسية والأمنية. ولا يقدح في ذلك بعض الأصوات التي تتحدث عن احتلال القطاع كونها تعبّر عن أمانٍ وانسجام مع خلفياتهم الأيديولوجية المتطرفة، فضلاً عما تنطوي عليه من رسائل تهدف إلى بث الرعب في صفوف الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة، ويندرج ضمن هذا الإطار ما أدلت به وزيرة القضاء أييليت شاكيد من أنه «يجب الاستعداد لاحتلال قطاع غزة».
وفي ما يتعلق بالظروف السياسية الحالية، أن وجهة المؤسسة الإسرائيلية بشقيها السياسي والأمني تركّز في شكل أساسي حالياً على جبهتها الشمالية بهدف منع التمركز الإيراني في سوريا، ومواجهة تحديات وتداعيات الخروج الأميركي من الاتفاق النووي وما يمكن أن يترتب على ذلك. في هذه الأجواء، تحرص إسرائيل على التفرغ لمواجهة التهديد الاستراتيجي الداهم في الشمال والشرق، وتعتبر أن أي مواجهة على جبهتها الجنوبية ستؤدي إلى استنزاف جهودها وحرف وجهة اهتماماتها وقد تتطور الأمور لاحقاً نحو فتح أكثر من جبهة في آن.
على هذه الخلفية، لم يكن مفاجئاً أن تجنح إسرائيل نحو تجنب التدهور الواسع، كما أكدت مواقف المسؤولين والتقارير الإعلامية، على رغم تهديد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأن رد إسرائيل «سيكون قوياً»، وهو ما فسّره عضو المجلس الوزاري المصغر، يوفال شطاينتس، عندما قال: «في الجولة الحالية الهدف هو ضربة قاسية وجبي ثمن باهظ من حماس».
مع ذلك، إن هدف الرد الإسرائيلي هو المحافظة على صورة الردع المتفوق، من دون خرق السقوف والتسبب بما يحشر المقاومة نحو ردود بعيدة المدى التي تملك القدرة على تنفيذ ذلك، وتأكد لإسرائيل أنها ما زالت تملك الإرادة والشجاعة للرد بما يتناسب. لكن بعد تبادل الطرفين الرسائل الصاروخية المدروسة بات واضحاً لكل منهما المضامين التي أراد إيصالها إلى الآخر. وهو ما سيكون أكثر حضوراً في المراحل اللاحقة. مع ذلك، هذه الجولة تكشف عن صحة التقديرات التي سادت في مراحل سابقة حول كون قطاع غزة أكثر قابلية للانفجار والتدحرج نحو مستويات من التصعيد يتجاوز الضربات الموضعية. ووفق رئيس «معهد أبحاث الأمن القومي»، اللواء عاموس يادلين، «قد لا يكون هناك مفر من جولة القتال التالية مع المنظمات الإرهابية في غزة»، مضيفاً على حسابه في «تويتر»: «يجب تحضير خطوة التصعيد التالية: أهداف نوعية مأهولة واستئناف الاغتيالات المركزة».
على رغم ما تقدم، ما جرى أمس، انطوى على رسائل أكثر عمقاً يصل مداها إلى «صفقة القرن»، فقد كشفت هذه المواجهة عن حقيقة أن الشعب الفلسطيني ما زال متمسكاً بخيار مقاومة الاحتلال، وأنه أبعد ما يمكن عن التطويع على رغم حجم الضغوط الهائلة. ولذلك يتوقع أن يتردد صدى الرسائل الصاروخية بما يتجاوز تل أبيب إلى الرياض وواشنطن المعنيتين برسائل المواجهة وآفاقها المستقبلية.