أسرار وأشياء كثيرة تختزنها بحيرة القرعون. فيوم كان نهر الليطاني تنبض حوله الحياة، كانت أسرار حياة أخرى تجري في وجدان جماعة شُرّدوا من وطنهم وطاردتهم «الضباع» قبل أن يطردهم سد القرعون إلى أمكنة لجوء جديدة لم تقوَ على محو ذكريات حزينة عن أحباء ماتوا قهراً على فلسطين ودفنوا مرتين في قعر البحيرة
عفيف دياب
لم يكن يخطر ببال الحاج يوسف محمد سعيد عبد المعطي (85 عاماً) أن رحلة غيابه عن فلسطين ستطول. ولم يكن يدري أبناء الشمال الفلسطيني أن رحلة عودتهم إلى قراهم ستصبح حلماً يراودهم، كما يراود الحاج الفلسطيني محمد عوض يونس ( 69 عاماً) الذي يتحسر على عدم استطاعته زيارة ضريح والده المدفون في قعر بحيرة القرعون منذ النكبة. إنها مجموعة صور تتشابك وتصنع خيوط عنكبوت تأسر أحلام الأجداد والآباء والأحفاد. فأجنحة «الحسرة» الحاملة بقايا بصيص أمل بالعودة إلى الديار، لا تفارق الحاج يوسف الذي «يعصر» ذاكرته ليروي قصة مخيم «ابتلعته» مياه بحيرة القرعون ولم تستطع هضمه أو محوه من ذاكرة من بقي على قيد الحياة من أبناء مخيم انتشروا في كل بلاد الله إلا فلسطين. يروي محمد يونس قصصاً خيالية عن مخيم القرعون والضباع التي كانت تشن عليه حربها أيام الثلوج والصقيع بحثاً عن فضلات طعام لم تكن متوافرة أساساً عند أبناء مخيم كانوا يأكلون «البلوط» لسد جوعهم. إنها صور ومشاهد لم تزل عالقة في ذاكرة طفل بدأت حياته بنكبات أقساها وفاة والد بقايا رفاته اليوم في قعر بحيرة القرعون. «كان عمري 7 سنين حين وصلنا سيراً على الأقدام إلى مارون الراس بعدما طردتنا العصابات اليهودية من قريتنا مغار الخيط قرب صفد. ومن ثم تابعنا سيرنا إلى بنت جبيل ومنها إلى بلدة الرفيد في منطقة راشيا بالبقاع، ولاحقاً إلى مخيم القرعون حيث أنزلنا في ثكنة للجيش الفرنسي كانت على ضفاف نهر الليطاني». لم تمر سنة على إقامة عائلة الحاج محمد يونس في مخيم القرعون حتى منيت بنكبة وفاة الوالد عوض الذي «دفن في مقبرة قرب المخيم الذي غادرناه سنة 1951 يوم قررت الدولة اللبنانية إقامة سد لبحيرة القرعون». يروي الحاج محمد قصصاً خيالية عن «الحياة الصعبة» التي كانوا يعيشونها في المخيم «فكانت الضباع تهاجمنا. وكانت الثلوج تطمرنا حيث مات أكثر من شخص دفنوا في المقبرة المدفونة اليوم تحت بحيرة القرعون».
بعض عائلات المخيم كانوا يدفنون موتاهم
في مقبرة بلدة القرعون قبل أن يقيموا السد
«أكثر من 60 فلسطينياً اليوم تضمهم مقبرة بحيرة القرعون»، يقول الحاج يوسف عبد المعطي الذي عمل مع الصليب الأحمر الدولي في تنظيم شؤون يوميات أبناء المخيم: «حشرنا حشراً في الثكنة الفرنسية. وقد مات كثر من كبار السن الذين دفناهم في مقبرة قرب مجرى نهر الليطاني». ويتابع «بعض عائلات المخيم كانوا يدفنون موتاهم في مقبرة بلدة القرعون، ولكن كنا نعتقد أن إقامتنا في المخيم لن تطول، لذا كنا ندفن الموتى في مقبرة قريبة، إلى أن اضطررنا لترك المخيم بسبب مشروع إقامة السد، فيما بعضنا كان قد غادره لأن الضباع كانت تهجم علينا، حتى أن شخصاً اسمه عنتر أكلته الضباع حين كان يحضّر الطعام لأطفاله من قرية بعلول، وقد دفنا بقايا عظام منه في المقبرة قرب النهر». ويضيف الحاج يوسف «أول ما لجأنا إلى مخيم القرعون، اتهمت بالخيانة لأنني بدأت أرسم حدود الغرف بأكياس الخيش». ويردف ضاحكاً «كان يعتقد أهالي المخيم أننا سنرجع إلى فلسطين بعد أيام، وأن تقسيمي الغرف يعتبر خيانة وكأننا لن نعود. واليوم أنا أنتظر العودة وأيضاً الأموات في مقبرة بحيرة القرعون». يتحسر الحاج محمد يونس على عدم استطاعته زيارة ضريح والده أسوة ببقية الناس و«في الأعياد والمناسبات أذهب إلى بحيرة القرعون وأقرأ سورة الفاتحة عن روح والدي، وأحياناً أركب في يخت صغير ينقلني إلى فوق المقبرة. لم نكن نعلم أن مصيرنا سيكون هكذا أسودَ ومحزناً إلى هذه الدرجة. فقبل بناء السد (1958) والطلب منا مغادرة المخيم ببضع سنوات، حاولنا نقل رفات والدنا إلى مكان آخر، ولكن أحد رجال الدين لم يسمح لنا بذلك لأنه مخالف للشرع الإسلامي، فرضخنا للأمر حيث لم نعد نستطع زيارة المقبرة وقراءة الفاتحة عن روح والدي إلا من على ضفاف البحيرة». ويضيف «أذكر جيداً أن بعض أهالي فلسطين ماتوا في مخيم القرعون بسبب البرد والصقيع. فقد كنا نذهب إلى الجبال المجاورة لإحضار الحطب للتدفئة، وأذكر أن جارنا في البراكسات أبو إبراهيم مات من شدة البرد، فيما كانت أمي تعبر بي من فوق جسر الليطاني أيام الصقيع إلى محيط دير سيد عين الجوزة في المقلب الغربي من مجرى النهر لإحضار البلوط طعاماً لأن الحكومة اللبنانية لم تكن توفر لنا سوى وجبة زيت وزيتون صباحاً ووجبة فاصولياء ظهراً إلى أن جاء الصليب الأحمر الدولي وبدأ يوفر لنا 3 وجبات طعام في اليوم الواحد». لم يكن الحاج محمد يونس الذي كان طفلاً يوم اللجوء الفلسطيني القسري الكبير إلى لبنان، يعلم أن عودته إلى فلسطين ستطول بعد رحلة من القرعون إلى مخيم نهر البارد وعودة إلى سعدنايل البقاعية: «كنت أسمع من كبار السن في مخيم القرعون أننا سنعود بعد شهر أو شهرين. وأذكر جيداً أن والدي دفن صفيحة من الذهب قرب منزلنا في مغار الخيط على أساس أننا عائدون قريباً. لم يكن والدي يعلم أننا سندفنه في مقبرة في لبنان تغمرها المياه بعد سنوات. فهو لم يعد إلى فلسطين ولا نحن، وصفيحة الذهب التي دفنها هناك دفن سرها معه في قعر بحيرة القرعون التي ستبقى شاهدة على فلسطيننا».


يتمنى محمد يونس امتلاك صورة واحدة لوالده يستطيع معها استعادة ملامحه، لكن رغم ذلك «لم أزل أذكر وجهه وتقاسيمه. لو كنت رساماً لرسمت وجه أبي الذي غاب عني مرتين: يوم كان يبحث عن فلسطين ويوم دفن في مخيم القرعون قبل أن تبتلعه البحيرة وتبتلع معه ذاكرة مخيم كان يضم بين عامي 1948 و1951 حوالى 4 آلاف لاجئ». يروي يونس قصصاً كثيرة عن الإقامة في المخيم، لابنه يوسف الباقي الوحيد من أفراد أسرته في لبنان فـ«كل أولادي هاجروا من هذه البلاد. إنها رحلة طويلة لم تمر بعد بفلسطين».