من ابن خلدون الى ماكيافيلي، افترض العديد من المفكرين عبر التاريخ ــ بداهةً ــ أنّ السلوك البشري والاجتماعي مرتبط بالطقس والمناخ. فلنتذكر أن هذه الأعمال كُتبت في زمنٍ لم تكن التكنولوجيا فيه قد أتاحت لنا التحكّم الكامل في درجة الحرارة المحيطة بنا، ولم يكن الطقس مسألة ثانوية أو مصدر ازعاجٍ يومي في الطريق بين المنزل والسيارة، بل إن موقعك على خطوط العرض كان «قدراً» يحدّد أسلوب حياتك، ويحيط بك في كلّ يومٍ ولحظة.
قسّم ابن خلدون الطبائع البشرية بحسب درجة الحرارة في مواطنها؛ فأهل المناطق القريبة الى خطّ الاستواء تكون روحهم «خفيفة»، يميلون إلى الانفعال السريع ومشاعر المرح والغضب، بينما أهل الشمال (في أوروبا وروسيا) روحهم منقبضة ويغلب عليهم الوقار والانطواء. أمّا في المناطق المعتدلة المناخ، يقول ابن خلدون، فإننا نجد هناك الشخصية البشرية الأكثر توازناً ووسطية. وهذه المواطن «المركزية» ــ للمصادفة ــ جعلها ابن خلدون ديار قومه، أي جنوب المتوسط والهلال الخصيب (للأمانة، كان مناخ بلادنا أيّام ابن خلدون محتملاً أكثر وأقلّ قسوة، وكان إقليم سوريا والعراق ــ تحديداً ــ أكثر اعتدالاً وخضرةً).
إلا أن تكنولوجيا القرن العشرين هي التي سمحت للإنسان (وللرأسمالية) بـ»التحرر» من هذه العوائق الطبيعية، وجرّ المياه والكهرباء الى الصحاري، واستيطان مناطق كانت تعتبر، ببساطة، غير قابلة للسكن، فصارت تسوّق على أنّها «مشمسة» وجاذبة للسياح. جزءٌ كبيرٌ من مدن أميركا وأقاليمها الزراعية (وبخاصة تلك التي نشأت في القرن الأخير) تقوم على أراضٍ رُدمت، وتجمعات مدينية نبتت في بوادي أريزونا ونيفادا وتكساس، ومناطق جافة ــ كجنوب كاليفورنيا ولوس أنجلس ــ تحولت الى مزارع وعمران بعد جرّ نهر الكولورادو إليها. وحتى في «أميركا التاريخية» على الساحل الشرقي، حين يحلّ الصيف في العاصمة واشنطن، وتظهر كلّ أشكال الحشرات الغريبة مع الرطوبة والحرّ، يتذكّر أهلها أن مدينتهم قد قامت أصلاً على أراضي مستنقعات تمّ تجفيفها واستصلاحها.
يحذّر العديدون من أنّ تحدّي الطبيعة على هذا المستوى و»لَيّ إرادتها»، عبر زرع عشرات ملايين المستهلكين في أراضٍ لم تحتمل تاريخياً سكناً ثابتاً وعمراناً، له ثمنٌ باهظ على المدى الطويل، أولى بوادره أزمة الجفاف التي تضرب كاليفورنيا وولايات غربية أخرى منذ سنوات. خذوا دبي وعواصم الخليج كمثالٍ على هشاشة المدن التي تقوم رغماً عن عوامل المناخ: يكفي أن تُقطع الكهرباء أو التكييف عن هذه الحواضر لأيام، حتى يتوقف كلّ شيء فيها عن العمل، ويغادرها أكثر سكانها.
الأكاديمي الراحل نلسون بولسبي، الذي قاد دراسات السياسة الأميركية في جامعة بيركلي لأربعة عقود، ادّعى في أحد أواخر كتبه (عن «تطوّر الكونغرس») أن تحوّل الثقافة السياسية في أميركا، وهيمنة الجمهوريين على الولايات الجنوبية بدءاً من التسعينيات، كان سببهما اختراع المكيّف المنزلي! هذا التوصيف ــ الذي يُستعمل أحياناً في معرض السخرية أو الانتقاد ــ هو تبسيطٌ مخلّ لنظرية بولسبي وللسلسلة السببية التي صاغها. كان بولسبي يدرس تطوّر بنية الكونغرس والحزبين الحاكمين في أميركا، وكيف تحوّل الحزب الديمقراطي من مؤسسة يهيمن عليها جنوبيون محافظون رجعيون (الـ»ديكسيكرات»، أو ديمقراطيو عمق الجنوب من كبار الملّاك وحلفائهم) وتسيطر، بدورها، على الكونغرس، الى حزبٍ ليبرالي شماليّ الطابع كما هو اليوم، فيما ارتفعت بالتوازي أسهم الجمهوريين في الجنوب، واكتسحوا، تدريجياً، دوائر الديمقراطيين فيه حتى سيطروا، عام 1994، على الكونغرس للمرة الأولى بعد أربعين سنة من الأغلبيات الديمقراطية.
وجد بولسبي أنّ صعود نفوذ الحزب الجمهوري في ولايات الجنوب ذات الطقس الملتهب، كفلوريدا وتكساس، قد ترافق مع هجرة الملايين من العائلات الشمالية إليها، إذ شهدت هذه المناطق، خلال النصف الثاني من القرن الماضي، عمليّة «تحديث» وتمدين، واختبرت نمواً سكانياً هائلاً. هذا أتاحه انتشار التبريد الكهربائي بدءاً من الخمسينيات، إذ جعل الحياة محتملة بالنسبة إلى الشماليين البيض، على مدار السنة، في مناخ صحراء تكساس ومستنقعات فلوريدا. نقل هؤلاء الشماليون المهاجرون ولاءاتهم السياسية (الجمهورية) معهم، وأصبحوا، مع صعود المدن الجديدة، أكثريةً تصويتية وسياسية استبدلت الزعامة التقليدية التي حكمت الجنوب منذ انتهاء الحرب الأهلية، أي الأرستقراطية الديمقراطية القديمة، القائمة على كبار الملاكين. بمعنى آخر: مناخٌ حارّ أنتج مجتمعاً زراعياً شبه إقطاعي، منقسم (على أساس عرقي) بين ملّاك رجعيين وفلاحين سود، ونشاطه الاقتصادي الأساسي هو زراعة القطن. أمّا مع التبريد والتكييف، فقد صعدت مدنٌ حديثة واقتصاد خدمي صناعي، فتغيرت الديموغرافيا السياسية بالكامل.
هذا يجري في دولٍ أمّنت منذ زمنٍ بعيد، كأولوية لا غنى عنها، الطاقة الرخيصة لمواطنيها وشركاتها (كلفة إنارة قصرٍ في أميركا تقل عن فاتورة الكهرباء الشهرية لمواطن لبناني بسيط). أمّا في بلادنا، حيث ما زالت أمورٌ كالطاقة الكهربائية والتحكّم في المناخ «امتيازاً» للأثرياء، فنحن نعيش بعد، من بيروت الى بغداد، في حالة أقرب الى حالة الطبيعة، نتأقلم مع تقلّب الحرارة وتعاقب الفصول، والطقس «قدرٌ» يشكّل طباعنا وأمزجتنا.