في مجتمعنا، لا يصبح المرء «أبيض» بل يولد بهذا «اللون» مع كلّ ما يرافقه من امتيازات. وبالطبع هذا «البياض» ما هو عرقي ولا جيني. فأنا «المهاجر» المولود في الخارج لوالدين غير فرنسيين، لم أتعرض يوماً خلال السنوات الخمسين وأكثر التي قضيتها في فرنسا إلى تنميط عرقي أو تفتيش جسدي، أو لإهانة من قبل شرطي. ففي المرتين الوحيدتين اللتين تم اعتقالي فيهما كانت الأسباب سياسية، مرّة بسبب رميي بيضاً فاسداً على موكب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1969 ومرّة ثانية على خلفية مشاركتي في احتلال سفارة التشيلي بعد انقلاب الجنرال أوغوستو بينوشيه في أيلول عام 1973.
غير أنني لم ألمس «امتيازات البيض» هذه بشكل واضح إلا في تسعينيات القرن الماضي حين بدأت ابنتي في الذهاب إلى المدرسة. فقد كنّا نقيم في حيّ في الدائرة العاشرة، وكانت ابنتي تقصد مدرسة «جاك ديكور»، وهي منشأة تعليمية متميزة تضمّ تلامذة «مختلطين» كما يقال عنهم. وكان كلّ واحد من زملائها السود والعرب يخضعون للتفتيش مرّات عدّة في الأسبوع، على عكسها تماماً.
أمّا أنا فقد ترعرعت في بيئة ذات ثقافة عالمية ولكن مع إدراك فكرة أنه في بعض الأحيان، قد تستخدم النزعة الكونية من أجل التمويه على هيمنة غير ظاهرة. إذ إن رفض رؤية القمع الذي تتعرض له جماعة ما، يوازي في الحقيقة تأييد هذا القمع. فلِكَم عقد من الزمن غضّت الجمهورية الطرف عن إخضاع النساء؟
لطالما حاربت المنظمات الكبرى المناهضة للعنصرية معاملة الشعوب التي هاجرت إلى فرنسا من المستعمرات السابقة كرعايا، بخاصة بعد انتهاء حرب الجزائر. ولكن يجب الاعتراف أنه منذ ذلك الوقت والفجوة تكبر مع تلك الشعوب. فمسيرة عام 1983 المطالبة بالمساواة ومناهضة العنصرية أدّت إلى تعزيز مكانة الحزب الاشتراكي، فهمّش هذا الأخير المتظاهرين واستبدل مطالبهم بالأطر والشعارات الجوفاء التي تستخدمها منظمة «أس أو أس راسيزم». ومع الوقت، أصبح هذا الارتباط مجرد قشرة فارغة تكاد تكون معدومة الوجود لولا إعانات الدولة والبلديات التي لا يعكس حجمها العدد الفعلي المحدود لأعضاء المنظمة.
وماذا عن المنظمات الأخرى المناهضة للعنصرية؟ فبدون ذكر انزلاقات حركة محاربة العنصرية ومعاداة السامية (MRAP) المتعلقة بما يوصف بالعنصرية «المضادة للبيض»، سنحصر البحث في الرابطة الدولية لمحاربة العنصرية ومعادة السامية Licra التي تتميز قيادتها بـ«بياضٍ» فاق نصاعاً الجمعية الوطنية الفرنسية. فعند أي انتقاد لسياسة إسرائيل، بخاصة من قبل الشباب المتحدر من أصول مهاجرة الذين هم أدرى بمعنى الاستعمار الذي يعاني منه الفلسطينيون، تخلط Licra بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل، فتروّج من خلال ذلك إلى معادة السامية ذاتها التي تزعم محاربتها. فمثلاً، من خلال محاربتها لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات، وهي حركة غير عنفية مؤيدة للفلسطينيين، تتبنى المنظمة الموقف الإسرائيلي وتعمل كممثل لإسرائيل في فرنسا.

عند أي انتقاد لسياسة إسرائيل تخلط Licra بين اليهودية والصهيونية


لماذا نُفاجأ إذاً من انعدام ثقة الشباب «الذي يعاني من العنصرية» بهذه المنظمات واستمراره في السعي لتنظيم نفسه بشكل مستقل؟ أو لرغبته في التحدث بنفسه عن القمع الذي يتعرض له وعن طموحاته وأحلامه؟ أو لرغبة النساء المحجبات أو غير المحجبات اللواتي يرفضهن كلّ هذه المنظمات المناهضة للعنصرية بأن يُسمعن صوتهن بكلّ فخر؟
لقد شكّلت مسيرة الكرامة في 31 تشرين الأول خطوة أولى في هذا الاتجاه. فهل كانت تمهّد لاستثناء البيض كما يقول إيمانويل ديبونو («لو موند»، 10 تشرين الثاني)؟ لم يكن ذلك رأي البيض الذين شاركوا في المسيرة. فهل استبعدت حركة السود في الولايات المتحدة البيض من صفوفها؟ بالطبع ثمّة اختلافات بين البلدين، إلا أنه طالما يشير رئيس الوزراء الفرنسي إلى نظام أبرتهايد في ضواحينا، وطالما ظاهرة الغيتوهات تتواصل، وطالما يقتل الشبّان في الضواحي من دون عقاب، ستبقى المقارنة جائزة.
فلنتذكر معاً ما قاله مالكوم أكس قبل حوالى نصف قرن من الزمن: «نحن جمهور السود لا نريد أولئك القادة الذين يسعون خلف دعمنا ويأتون إلينا وهم يمثلون حزباً سياسياً. يجب أن يأتوا إلينا كقادة سود يمثّلون مصلحة السود. نحن لن نتبع أي قائد تابع للأحزاب السياسية. فالحزبان (الديمقراطي والجمهوري) يتحكم بهما الأشخاص ذاتهم الذين انتهكوا حقوقنا وخدعونا بوعود كاذبة مع اقتراب كلّ انتخابات». وهذا ما يلاحظه أيضاً الذين صوتوا لنيكولا ساركوزي عام 2007 أو فرنسوا هولاند عام 2012. فمكافحة العنصرية إذاً ليست «من امتيازات البيض».
(ترجمة هنادي مزبودي)
* رئيس التحرير المساعد في
«لو موند ديبلوماتيك» (فرنسا)