وجّه أسعد أبو خليل عتباً مؤلماً إلى الشعب الفلسطيني في جريدة "الأخبار" في عددها الصادر في العشرين من شباط الماضي.
لقد بُني نص أبو خليل على منطقه المعرفي الماضي في تاريخ القضية الفلسطينية، وبالفعل كان خطاباً موجعاً ومؤلماً لكل من عرف الثورة الفلسطينية عن قرب أو بعد، وقد يكون خطابه نقداً ذاتياً لتحولات الثورة في ما عرف عنها بعد أوسلو، وتحول الخط الثوري من مساره التنويري والتحريري إلى ساحة تعجّ بالفوضى والمنفعة الذاتية، وهدم كل التاريخ النضالي الممنهج عبر كل ما يمرّ به الفلسطينيون الآن من احتلال لعدو فاشي إلى احتلال آخر لمفاهيم السلطة التي تحاول أن تنقل النموذج الأكثر سوءاً، وهو النموذج الديكتاتوري والعشائري العربي.
ولكن أخطأ المناضل أبو خليل في تحديد المرض، حينما اعتقد أن الشعب الفلسطيني قد تغيّر، وأنه مسؤول بنحو ما عمّا يحصل الآن على الساحة الفلسطينية، إن كان بموافقته على أن يكون محمود عباس "رئيساً" للفلسطينيين، أو ما ذكره في فقرته حول التغيّرات السياسية الطارئة في فلسطين. وهنا ربما علينا توضيح ما يجري، كشعب وكصوت خافت يعبّر عن جمع كبير من الشعب الفلسطيني.
أولاً، إن ما يحدث في فلسطين وما تتناقله وسائل الإعلام لا يعبّر بالضرورة عن الشعب الحيّ الذي لا يزال يحمل قضيته على كتفه، ولا يزال جزء كبير منه يعيش في المخيمات في الداخل، والعدد الكبير من الشهداء والجرحى والأسرى. ولا يزال هناك أطفال لم تُسمع كلماتهم ولم يُعرف رأيهم بعد، وهؤلاء شريحة من الشعب الفلسطيني لا يمكن تجاهلها، أضف إلى ذلك فلسطينيي مناطق الـ ٤٨ الذين لا يوافق واحد منهم على سلطة الضفة الغربية، والشق الآخر من الفلسطينيين في غزة ومن ثم لبنان والأردن وسوريا ومصر وباقي دول العالم.
هذا الشعب الذي يبلغ قوامه اثنا عشر مليوناً الآن هو غير مسؤول ولا يوافق على ما يحدث من تشتيت وضياع للقضية الفلسطينية على المستوى السياسي، ولكنه يقوم بدوره على المستوى التاريخي والإنساني والاجتماعي، ويكرس مبادئه لأبنائه جيلاً بعد جيل، ولا يزال يتذكر قراه المهجّرة وباقي عائلته المهجرّة في لبنان أو سوريا أو غيرها، ولا يزال يلعن الاحتلال كل يوم، وبقي كما عهدته يعمل على ربط فلسطين بجنوب أفريقيا بفييتنام ويعرف الشعر النضالي، وغسان كنفاني وناجي العلي، وجيفارا ومهاتما غاندي ونيلسون مانديلا وأولاف بالما، كوزو أوكوماتو، وجورج غالاوي وغيرهم الكثير. ولا يزال الشعب يخفق بالثورة والكرامة التي رضعها أباً عن جد، ولم يتلقّها في يوم ما من شخص طارئ أو خارج عن قيمه ومبادئه، ولا يلتزم الشعب بأصحاب المناصب والكروش الذين يبحثون عن مصالحهم الشخصية.
إن من يتحمل هذا الضياع هو الإطار السياسي على كافة الصعد ومحاولته التفرد بقراراته وسحب الاعتراف من الشعب لأجل مصالحه الشخصية، ولا يمكننا أن ننسى ما حدث في غزة في عام ٢٠٠٧ بين التيارين المتناحرين فتح وحماس، الذي لا يزال لغاية هذه اللحظة يتبع أجندات شخصية لأشخاص ينتفعون بهذا الانفصال، الذي يكرس عراه الواقع السياسي وليس الاجتماعي. إن الشعب المناضل لا يزال لهذه اللحظة يطالب برأب الصدع بين المنطقتين، وأن تتوحد البوصله تجاه المحتل فقط.
إن الشعب لا يزال يعاني الأمرّين، وأصبح صديقه عدوه، وعدوه ازداد شراسة، ولا يمكننا أن ننسى العدوان الأخير على غزة في عام ٢٠١٤، الذي لم يقف إلى جانبه أي أحد، لقد سُحق الشعب الغزي هناك، واستشهد قرابة ٣٠٠٠ فلسطيني لم نسمع أن سياسياً واحداً أو مسؤولاً واحداً راح ضحية هذا القصف العشوائي، وما زالت غزة محاصرة لغاية الآن لما يقارب تسع سنوات.
وصل عدد الجرحى
إلى أكثر من عشرين
ألف جريح

أما في الانتفاضة الأخيرة، فقد وصل عدد الجرحى إلى أكثر من عشرين ألف جريح، وأكثر من ٥ آلاف أسير، ويربو عدد الشهداء هذه الأيام على مئتي شهيد.
الشعب يقاتل وحده، وصوته غير مسموع، لا مصدر إعلامياً نزيهاً ولا باحث حقيقياً يستطيع أن يصل إلى العائلات في بيوتها ويعرف أكثر عن مواقف الشعب مما يحصل. إن اللعنات تُسمع يومياً في داخل البيوت والمؤسسات ضد أوسلو وعربنة القضية ملايين المرات. لا تتوقف اللعنات، إنها أكثر من التسابيح والشكر لله، إن الناس هنا يختنقون يوماً عن يوم، وإن كان هناك زمن سيفرز ما بين الضدين، فلن تجد أكثر من ألفي شخص حرصاء فعلاً على بقاء الوضع على ما هو عليه، ويتبنونه كفكر عقائدي راسخ لا يدافعون عنه فقط من أجل الدفاع، وستجد عشرين ألفاً ربما يتبنون فكر السلطة بناءً على التخبط والخلط ما بين فتح والسلطة، وهم لا يفقهون في السياسة شيئاً. وستجد ربما مئة ألف من الفتحاويين نأوا بأنفسهم جانباً عمّا يحدث، وكذلك عند بقية الفصائل الفلسطينية.
إن الانتفاضة الأخيرة كانت واضحة ومؤشراً لا يقبل الشك في أن الشعب لا ينتمي إلى الحزبية، ويحرر نفسه من هذه اللعنة التي حلت عليه، وان الأحزاب السياسية الآن أو الباقين منها يتقاتلون على الشهداء ليضعوا شعارهم فوق جثثهم، ودورهم لم يعد يتعدى هذه المكانة.
الشعب لا يزال حياً أيها المناضل الكريم، ونرجو أن تصل رسالتك للسياسيين، ولرفاق دربك السابقين الذين تعرف عنهم الكثير.
لا أنسى حينما استقبل الفلسطينيون "الفدائيين" في عام ١٩٩٤، اعتقاداً منهم أن هؤلاء جاؤوا كناجين من المعارك والعمليات وصولات الدفاع والهجوم على المحتل، واكتشف الشعب بعد ٦ أشهر من ضيافتهم لهم وتبرعهم لهم بالبيوت والأراضي والسيارات، أن هؤلاء جاؤوا ليضعوا أياديهم في أيادي الإسرائيليين.
الشعب الفلسطيني لا يزال يواجه أكثر من عدو. إن العدو الذي أقله خطر علينا هو الإسرائيليون، وأطفالنا لا يخافونهم، ولا شك في أنك تسمع أخبارنا وتتعرف إلى أعمار المناضلين الجدد وما يقومون به. نحن نستطيع أن نواجه الاحتلال ونفني أرواحنا من أجل فلسطين حتى الشهيد الأخير.
لكن الذي يطعننا "أصدقاؤنا" الكثر، هم من يحاصروننا ويقتلوننا مرتين.
الشعب لا يزال يمسك زمام الأمور، ولم يندفع بعد للانتقام من الخونة والعملاء، ولكن ما يحدث يدلّ على أن تصفية كل الخونة ستأتي ولو بعد حين...
نشكر الله أنك موجود، وأن صوتك لا يزال نقياً، واستطعنا أن نسمعه.