أثناء انتفاضة الأرز في بيروت عام 2005، بعد اغتيال الحريري، كان لافتاً ظهور صورة كبيرة تضم الضباط الأمنيين الأربعة الكبار، مع مطالبة بإقالتهم بعد اتهامهم بمقتل رفيق الحريري وحماية النظام الأمني السوري/ اللبناني المكروه من كافة اللبنانيين لفساده وتهربه من استحقاقات اتفاق الطائف، الذي كانت كل الكتل السياسية اللبنانية مشاركة فيه إلا ما ندر، بما فيها التي ثارت عليه.بعد أربع سنوات من الاعتقال سيبرّأ الضباط الأربعة من قضية اغتيال الحريري (نيسان 2009)، وسيرفع أحدهم (اللواء جميل السيد) دعوى قضائية دولية على خصومه في لبنان والمحكمة بسبب ذلك، إلا أن اللافت في الأمر أن أيّاً من دعاة محاكمة الضباط لم يرفع دعوى عليهم ليعيدهم إلى السجن بتهمة أنهم جزء من نظام الوصاية الأمني وفساده الذي عطّل تطبيق اتفاق الطائف اللبناني، وكان أداة النهب التي يسّرت لأشقائهم الأمنيين السوريين حكم لبنان ونهبه وجعله ملحقاً اقتصادياً وأمنياً، وذلك على حساب اللبنانيين الذين كانت الحرب قد قتلت مجتمعهم المدني ووأدت أية ممانعة في الجسم اللبناني لمقاومة ما فُعِل به ولا يزال.
السؤال الذي يسأل هنا: إذا كانت انتفاضة الأرز عام 2005 وفق ما رفعت شعاراتها هي ضد الوصاية الأمنية السورية اللبنانية، فلم لم يرفع أحد دعوى على هؤلاء الأمنيين بتهم الفساد والارتهان للخارج، فيما اقتصرت الدعوى على الاتهام باغتيال الحريري، وقد خرجوا منها أبرياء؟
الإجابة عن سؤال كهذا تكمن في معرفة الفارق بين الانتفاضة بأبعادها الوطنية والانتفاضة بما يركّب عليها من الخارج، بحيث يحصل الانزياح للخارج على حساب مصالح الداخل، بسبب ارتهان الطبقة السياسية اللبنانية من جهة، وعدم قدرتها في الوقت نفسه على إحداث التغيير بوجه النظام السوري إلا بمعونة هذا الخارج من جهة ثانية، وعدم وعي الشعب لما ترتبه طبقته السياسية المرتهنة سابقاً للنظام السوري المرتهنة الآن للنظام الدولي؛ إذ في لحظة الانتفاضات يكون الغضب مسلّطاً على السلطات التي ثارت الشعوب عليها بفعل الظلم المديد الذي لقيته تلك الشعوب، فتكون العقول مركزة على ضرورة التخلص من «الشيطان» الحالي، وهو ما يتيح للشياطين الأُخر الدخول إلى الجنة تحت مسميات كثيرة تبدأ من مساعدة الشعوب ولا تنتهي عند الوعود الديموقراطية الجذلى، التي ليست إلا الوجه الآخر لنظام الوصاية الأمني، إنّما بشكل ألطف.
أوّل الأسباب التي منعت رفع دعاوى قضائية على خلفية الفساد هي فساد الطبقة السياسية اللبنانية بأغلبها، الأمر الذي يعني أنّ القضاء سيطاولها في هذه الحالة لأنها كانت شريكة في الأمر طوال عقود، فعملت هنا بالتعاون مع الطبقة الأمنية السلطوية الجديدة التي ستحل مكان السلطة الأمنية السورية على «لفلفة» هذا الطلب من «انتفاضة الأرز» التي بدأت تتحول من تنفيذ مطالبها الداخلية المتمثلة بخروج النظام الأمني/ العسكري السوري من لبنان، لمصلحة مطالب الخارج الذي ساعدها على التخلص من النظام السوري لأجل مصالحه التي يتمثل أحدها بخلق أجهزة أمنية جديدة تدور في فلك الأجهزة الأمنية الغربية في ما يخص قضايا المنطقة، وهي التي تتخذ شكل تعاون يبدأ من «مكافحة الإرهاب» ولا ينتهي عند حدّ تقديم خدمات أمنية بالمعنى المباشر للكلمة في قضايا داخلية وأخرى خارجية تخص الصراع العربي الفلسطيني والوضع الأمني في العراق وأبعد إن أمكن، إضافة إلى نزع سلاح حزب الله الذي بات مطلباً دولياً منذ ذلك الحين، لا لأنه يهدد الداخل اللبناني كما تبرر القوى الغربية، إذ آخر ما يعنيها الشعب اللبناني، بل لأنه يهدد إسرائيل، وهو مدرج أمنياً ضمن سياق الحلف الأمني الآخر في المنطقة الممتد من طهران حتى غزة (حالياً انسحبت منه غزة، قد تكون موسكو قد انضمت إليه بعد لقاء نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف مع حزب الله، وهو ما يفسّر ربما تجرؤ الحزب على التدخل في سوريا علناً!). وهنا بالذات نفهم السر الذي أدى إلى عدم محاكمة الضباط الأربعة بتهم الفساد؛ إذ إن الهدف المباشر هو إبعادهم لمصلحة خلق أجهزة أمنية بديلة تؤدي دورها وفق المنظومة الأمنية الغربية المتشكلة في المنطقة، التي طالما كان البعد الأمني أولوية فيها لكل من يريد أن يحكمها أو يدخلها في محوره ليضمن مصالحه فيها، ولعلّ إصرار الغرب بعد اتفاق أوسلو على ربط «الإشراف» على الأجهزة الأمنية الفلسطينة ومحاولة دفعها لمقاومة المقاومة الفلسطينية يأتي في هذا السياق، وسجن «أحمد سعدات» وغيره في سجون السلطة يدل على هذا المأزق الذي تدخل فيه السياسات الغربية البلدان فيها، فتحوّل الأخوة إلى سجانين ومسجونين لحسابها. وكدليل آخر على ذلك: إن أميركا رغم تصنيفها إيران في محور الشر والدول المارقة، فإنها تطلب من إيران التعاون الأمني من تحت الطاولة وقد حصل الأمر في محطات عراقية وأفغانية حين كانت المصالح تتطابق، وهو ما كانت إيران ترفضه حين تفترق المصالح، مطالبة بأن يكون التعاون الأمني جزءاً من اتفاق شامل، وهو ما ترفضه واشنطن التي تنتظر الفرصة المناسبة للاستحواذ على إيران كلها وإدخالها في منظومتها الأمنية بعد تفكيكها من الداخل أو بواسطة حرب خارجية، والأمر نفسه ينطبق على سوريا؛ إذ كانت الخطوط الأمنية السورية/ الأميركية تتبادل الخدمات في ما يخص العراق وقضايا الإرهاب، فأميركا الباحثة عن أمن جنودها وتجفيف القاعدة المهددة لمصالحها في العالم وفي الداخل الأميركي، تلاقت مصلحتها مع النظام السوري الذي يقدم نفسه جهازاً أمنياً بالدرجة الأولى قادراً على محاربة الإرهاب وضربه، وهو ما سعى جاهداً طوال سنتين لوسم الانتفاضة السورية به، مقدمّاً نفسه بوصفه المخلّص الذي تلتقي عنده المصالح الأميركية/ الروسية في ضرب الإرهاب، وما هذا الحديث المتكاثر غربياً عن عزل المجموعات الجهادية ووضع «جبهة النصرة» على قائمة الإرهاب ومطالبة «الجيش الحر» بضرب النصرة، إلا سعي إلى تفريغ انتفاضة الكرامة من مطالبها الأساسية بالحرية والعدالة لمصلحة تحويل الجيشين: النظامي والحر إلى «جهاز أمني» متقدم لتلك القوى الغربية بمحوريها الروسي/ الأميركي.
الدرس اللبناني الذي انتهى بالأجهزة الأمنية اللبنانية لأن تكون موزعة بين محورين (فرع المعلومات في المحور الغربي وفرع الأمن العام في المحور الإيراني) بعد أن كانت تعمل كلها في سياق المنظومة السورية/ الإيرانية، قد يكون مساعداً لمحاولة البحث في الحالة السورية من جهة البعد الأمني، الذي يجري الصراع الدولي عليه حالياً؛ لأن من يمسك به يضمن مصالحه؛ لأن الأجهزة الأمنية هي الحامي في نهاية المطاف لأية مصالح حين توظف في سياقها، ومن هنا يمكن فهم ما يُسرَّب من معلومات متناقضة تتعلق بأن الحكومة الانتقالية التي سيتمخض عنها مؤتمر جنيف لن تشمل الأجهزة الأمنية والجيش، أو أنها ستكون جزءاً من أي اتفاق!
في نقاش هذا الأمر، تبدو الأمور مركبة ومتداخلة حقاً؛ فالأجهزة الأمنية السورية هي من ثار عليها الشعب السوري نظراً إلى تجاوزاتها الكبيرة وتعسفها وظلمها المواطنين ودورها الكبير في حماية ماكينة الفساد، وخاصة بعد التحول الكبير الذي طرأ على طبيعة النظام السوري بين الأسدين؛ إذ كانت سلطة الأجهزة الأمنية هي الأعلى ويخضع لها الجميع في عهد الأب، فيما أصبحت سلطة رجال أعمال السلطة هي الأعلى (السلطة فقط وحصراً! أي الأموال التي نهبت في عهد الأسد الأب وتحولت إلى رأسمال بات يبحث عن مجال استثمار)، بحيث أصبحت الأجهزة تعمل لضمان أموال هؤلاء، وبشكل متداخل إلى حد كبير، إلى درجة أن يكون أولاد العائلة الواحدة مقسّمين بين عالمي المال والأمن، ليصبح الأمن موظفاً في سياق حماية هذه الأموال المنهوبة من دم الشعب السوري بطبيعة الحال. هذه الطبيعة الأمنية التسلطية المافيوية الفاسدة للنظام السوري هي من ثار الشعب السوري عليها، مطلقاً «انتفاضة الكرامة» ولا يزال.
لكن من جهة أخرى، إن هذا النظام الأمني نفسه على صلة مع كل ملفات المنطقة المتشعبة، بدءاً من حزب الله إلى غزة والأراضي المحتلة والعراق، إضافة إلى قوة المعلومات التي يملكها عن شبكات القاعدة والإرهاب في المنطقة؛ إذ كشفت وثائق «ويكيليكس» في تقرير مرسل من السفارة الأميركية في دمشق إلى واشنطن، أنّ مسؤولاً أمنياً سورياً قال خلال اجتماع مع مسؤولين أميركيين: «من حيث المبدأ، نحن لا نقوم بمهاجمتهم أو بقتلهم على الفور، بدلاً من ذلك نحن نزرع أنفسنا بينهم وفقط في اللحظة المناسبة نتحرك».
وتعمل هذه الأجهزة ضمن منظومة أمنية ممتدة من طهران حتى غزة، مع احتمال كبير بانضمام موسكو أخيراً (لنتذكر زيارة رئيس الاستخبارات الروسية في بداية الانتفاضة السورية). وهنا فإن المطلوب غربياً هو تفكيك هذه الأجهزة، لا لحماية الشعب السوري وتحقيق أهداف انتفاضته، بل لتكون هذه الأجهزة خادماً مطيعاً في أيدي الدول الراعية اليوم للمعارضة السورية، بهدف حماية المصالح من جهة، وتفكيك أي بعد لهذه الأجهزة في عملية مدّ أيّة مقاومة بالسلاح في المنطقة، أي ضمان أمن إسرائيل أولاً وآخراً. وما هذا التدمير الممنهج للجيش السوري وعتاده العسكري إلا خطوة في هذا السياق، وهو أمر يجري تحت ستار المطلب الوطني للانتفاضة السورية بـ«إسقاط النظام السوري»، إلا أنه يهدف إلى تدمير الدولة السورية دون أن يسقط النظام بالضرورة.
هنا تماماً يكمن التفريق بين المطالب الوطنية الداخلية للانتفاضة السورية المتمثلة بتفكيك البعد الداخلي للأجهزة الأمنية وإخضاعها للقانون في عملية تعاملها مع المواطن السوري، وبين المطالب الغربية والروسية التي لا يهمها البعد الأول، بل تريد أن تكون تلك الأجهزة موظفة في سياق محورها ومصالحها. وكون لدينا في سوريا أغبى معارضة عرفتها البشرية لم تتمكن حتى اللحظة من أن تدرك أن أولئك الداعمين من الطرفين سيبيعونها عند أول مفترق طرق، لأنهم هم أنفسهم الذي حمَوا نظام الاستبداد حين كان يسجن مواطنيه ويعتقلهم لأوهى الأسباب، ولأن هذا الأمر لا يدخل في حساباتهم ولا يهمهم إلا كمطية لتحقيق ما يريدون، وما دعم «الجيش الحر» إلا بهدف تفكيك مؤسسات الدولة السورية على الصعيد المدني والعسكري، ليبنوا على أطلالها ما يخدم مصالحهم، أو أن يفرضوا في نهاية المطاف تناصف الأجهزة كما حدث في لبنان، وما هذا الصراع الروسي الأميركي على صلاحيات الحكومة الانتقالية في ما يخص الأمن والجيش إلا صدى لما سبق؛ إذ بعد تكاثف الوجود الروسي في المنطقة الذي بات واضحاً تقاطر سفنه إلى المتوسط، ليس غريباً أن تسعى موسكو إلى الحفاظ على البعد الأمني للنظام كما هو، لأنها تريده أن يكون موظفاً في خدمة مصالحها أمنياً بحماية السفن الروسية في المتوسط، والاستفادة من بنك المعلومات الذي يختزنه العقل الأمني السوري في ما يخص مكافحة الإرهاب، وخاصة أن المحيط الروسي ينذر بصعود إسلامي قد يتأثر بما يحصل في المنطقة حالياً، فضلاً عن «الجهاديين» الذين قدموا من المحيط الروسي، وهؤلاء سيعودون يوماً إلى هناك كما يعود السوريون الذين قاتلوا في صفوف القاعدة في العراق وأفغانستان اليوم إلى سوريا!
هنا يجب على المعارضة السورية أن تصرّ في جنيف (إن عقد) على أمرين في ما يخص هذا المجال:
الأول: تفكيك البعد الأمني للنظام السوري في ما يخص تسلطه واستبداده ورعايته الفساد داخلاً، بإخضاع تلك الأجهزة لسلطة القانون والقضاء فعلاً، بحيث يسهل محاكمتها حين تتجاوز القانون، وخاصة في ما يتعلق بقانون «مكافحة الإرهاب» الذي وضع بدلاً من قانون الطوارئ والذي يقوم عملياً بكل مهمات الأول حتى اللحظة، مستخدماً ضد المناضلين السلميين وكل من يقول «لا» بوجه السلطة؛ إذ يجب أن تكون العلاقة واضحة ومحددة في ما يخص العلاقة بين المواطنين السوريين والأجهزة الأمنية، بحيث تحصر بجهاز القضاء الذي وحده يعطي الحق باستدعاء مواطن بحضور محاميه حصراً، وشرط أن تخضع كل السلطات للقضاء بنحو فعلي، بما في ذلك سلطة الرئيس.
هنا ميدان الصراع الأساسي، لأن الجهاز الأمني حين يفكك في بعده هذا، سيصبح النظام بحكم الساقط؛ لأن هذه الأجهزة هي وسيلة النظام لإخضاع مواطنيه، مع ملاحظة أن النظام والقوى الغربية بمحوريها سيعملون معاً على إبقاء هذا البعد مسلطاً تحت سياق «مكافحة الإرهاب»؛ لأن أحداً منهم لا يريد دولة ديموقراطية في سوريا، فهم يدركون جيداً أن الديموقراطية الحقيقية تعني الحد من مصالحهم تدريجاً لمصلحة الدولة السورية القوية التي ستعمل على بناء قوتها. وهنا سيعمل النظام بكافة السبل على استغلال هذه الحاجة الخارجية لإبقاء مخالبه نافذة في جسد المجتمع والدولة السورية تحت ستار مكافحة الإرهاب، وهو ما يجب على المعارضة فهمه جيداً والإصرار عليه في أي اتفاقية توقع لاحقاً.
الثاني: يتعلق بسعي المعارضة قبل النظام إلى الحفاظ على مكامن قوة النظام الأمني في ما يخص البعد الخارجي للصراع في مكافحة الإرهاب والوضع الإقليمي؛ لأن هذا أمر يخص الدولة السورية بوصفها جزءاً من الصراع المستمر مع العدو الصهيوني، لكون الجولان السوري لا يزال محتلاً، وإن التفريط بهذا الأمر وعدم أخذه في الاعتبار هو تدمير للدولة السورية أولاً وآخراً. وهذا ما تسعى القوى الغربية إلى تفكيكه على ظهر الانتفاضة السورية.
* شاعر وكاتب سوري