مضى أكثر من قرن على المجازر البشعة التي ارتكبتها تركيا ضد الشعب الأرمني المظلوم، والتي بدأها السلطان عبد الحميد في أواخر القرن التاسع عشر، وأكملها الأتاتوركيون في الربع الأول من القرن العشرين. وتقول جميع المصادر التاريخية الصادقة إن المجازر التركية قد شملت، أيضاً، جميع المسيحيين الشرقيين العرب (اللبنانيين (المجاعة) والسريان والاشوريين) وغير العرب: البلغار، واليونانيين، الذين انتفضوا في نهاية الحرب العالمية الأولى لاسترجاع بيوتهم وأراضيهم التاريخية، ولا سيما القسطنطينية العظيمة التي كانت في القرون الوسطى، إلى جانب الأندلس، أكبر منارتين حضاريتين في العالم، لكن الأوروبيين الغربيين والأميركيين دعموا وسلحوا الأتاتوركيين لذبح الانتفاضة اليونانية، ولإنشاء دولة تركية جديدة قوية.

وحتى اليوم لا تزال الدول الاستعمارية الغربية، وعلى رأسها الإمبريالية الأميركية، تمتنع عن التحقيق في المجازر التركية والاعتراف بالحقوق التاريخية لشعوب الشرق، ولا سيما المسيحيين الشرقيين، الذين ذاقوا الأمرّين على أيدي الهمجية العثمانية والأتاتوركية.
وهناك سبب جوهري لا بد من المناداة به على رؤوس الأشهاد، وهو أن هذا الامتناع الغربي عن كشف المظالم التاريخية التي حلت بالمسيحيين الشرقيين، ليس منشأه فقط مسايرة الحكومات التركية الموالية للغرب، بل أكثر وأفظع من ذلك بكثير، وهو أنه إذا كان فتح العثمانيين للقسطنطينية قد جرى بتمويل وتأييد اليهودية العالمية وبتواطؤ أوروبا الغربية، فإن المذابح التي ارتكبت ضد المسيحيين الشرقيين قد ارتكبت بإيعاز مباشر من الدول الاستعمارية الغربية لعملائها من العثمانيين و«الأتراك الفتيان» (عبد الحميد وطلعت باشا وأنور باشا وجمال باشا ومصطفى كمال باشا).
ونحن، من هذا المنبر العربي الصادق، نطالب الرأي العام الدولي المنصف، ونطالب خصوصاً الدولة الروسية، التي سبق لها أن فضحت اتفاقية «سايكس ـــ بيكو» الاستعمارية اللصوصية، بأن يجري العمل لفتح ملفات الدبلوماسية السرية والاستخبارات، ولتمزيق الستار عن الاتصالات بين الدول الاستعمارية الغربية وبين الحكام العثمانيين وقادة جمعية «الاتحاد والترقي» وجمعية «تركيا الفتاة» والأوامر التي تلقوها بإبادة المسيحيين الشرقيين، مقابل موافقة الغرب الاستعماري على إقامة دولة تركية قوية ذات جيش حديث، مؤهلة لدعم انشاء إسرائيل، ولسحق العرب «عند الضرورة»، ولمحاربة روسيا.
ولمن يتساءل: لماذا يكره الغرب الاستعماري المسيحيين الشرقيين ويعمل، مباشرة أو بواسطة «أصدقائه» وعملائه «الاسلاميين» المزيفين، لإبادتهم وتشريدهم واستيعابهم في البلدان الغربية كحطام بشر مكسوري الجناح، نقول:
1_ من أيام «روما» إلى أيام باراك أوباما، فإن الغرب الاستعماري، بكل جبروته وعنجهيته، يعاني «مركّب نقص» وحسداً وحقداً دفيناً، حيال المسيحيين الشرقيين. فحينما كان العالم الغربي كله يغرق في غياهب الجهل والوحشية، كانت الأراضي الشرقية المقدسة، من مصر إلى أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق)، ومن جبال فلسطين ولبنان إلى جبال البلقان واليونان، ومن النيل إلى الفولغا، تشع بنور المسيحية الساطع، وتعلم العالم الأبجدية وأرقام الحساب وأبجديات العلوم الوضعية والانسانية والجمالية والحقوقية، والزراعة والحرف وفن إخضاع الصحاري الرملية والسهوب الثلجية والبحار.
2_ حينما كانت «روما»، المدرسة ـــ الأم للغرب الاستعماري، حقوقياً وسياسياً و«انسانياً»، تبذل قصارى جهدها لسحق وتدمير الشعوب الأخرى (كما دمرت قرطاجة) ولتحويلها إلى قطعان من العبيد، كانت الشعوب المسيحية الشرقية تتبنى المسيحية وتؤله «ابن الانسان»، وتناضل ضد روما لتحرير العبيد، ولرفع الظلم القومي والاجتماعي عن بني البشر، وتدعو إلى الأخوّة الانسانية.
فحينما يعمل الغرب الاستعماري على طمس الجرائم التاريخية ضد الشعوب والجماهير المسيحية الشرقية، فإنما هو يعمل، أولاً، للدفاع عن نفسه بوصفه المخطط الأول والمرتكب الأول لتلك الجرائم، وثانياً، هو يؤكد عزمه على مواصلة ارتكاب مثل هذه الجرائم ضد المسيحيين الشرقيين.
إن الشعب الأرمني كان بمثابة الضحية الأولى لسلسلة المجازر التي لطخت وجه القرن العشرين، والتي ارتكبتها الفاشية التركية الصاعدة، بتفويض من قوى الاستعمار والظلامية العالمية، ضد مسيحيي الشرق.
وبالرغم من فظاعة هذه المأساة الانسانية، وهزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، وانتصار معسكر «الديمقراطية» على معسكر «الفاشية» في الحرب العالمية الثانية، وانتصار «العالم الحر» على «الستار الحديدي» في الحرب الباردة، لا يزال الشعب الأرمني إلى اليوم ضحية للمساومات الدولية، التي تقف حائلاً دون اعتبار قضيته قضية قومية عادلة، تستوجب البحث في موضوع استعادة أراضيه، والعودة إليها، والاعتذار التاريخي ودفع التعويضات له من قبل العثمانيين وورثتهم، ومن قبل أسيادهم الغربيين، وليس فقط «الاعتراف بالخطأ» و«الاعتذار السياسي»، وهو حتى ما لا تزال تركيا ترفضه بدعم من الدول الغربية. وفي وقت يجري فيه التسابق لتجيير التضحيات التي قدمها اليهود البسطاء والشرفاء والتقدميون والشيوعيون، في ما يسمى «الهولوكوست»، على أيدي النازية الألمانية، لمصلحة النازية الأخرى، اليهودية، المتمثلة في الصهيونية، فقد أسدلت الدول الغربية ستاراً كثيفاً على المجازر الأرمنية، ومنعت الشعب الأرمني في الشتات من طرح قضيته القومية والنضال لأجل استعادة أراضيه التاريخية.
وإن تغاضي الدول الاستعمارية الغربية ـ بعد كل هذا الزمن ـ عن القضية الأرمنية، إنما يدل على أن تلك المجازر لم تكن «فورة طيش» آنية لجماعة «تركيا الفتاة»، والأتاتوركية، وأن الدول الاستعمارية الغربية كانت ولا تزال شريكة في الجريمة الكبرى التي ارتكبت بحق الشعب الارمني الأبي، وتجد مصلحتها في استمرار طمس هذه الجريمة، واسقاطها «بمرور الزمن» من جدول القضايا القومية الحية التي تتطلب الحل.
إن الدول الاستعمارية الغربية، ومنذ الحروب الصليبية، وخاصة منذ الحقبة النابوليونية، كانت تطمح لاستعمار الشرق. ولتحقيق هذه الغاية، كانت ترى أن الشعب الأرمني، المسيحي، وغيره من الشعوب المسيحية الشرقية، تمثل «عقبة موضوعية» أمام مشاريع الاستعمار «المسيحي» الغربي للشرق. وإزاحة هذه العقبة، على أيدي العثمانيين والأتاتوركيين وغيرهم من «المسلمين» المزيفين كان يحقق هدفاً رئيسياً للدول الاستعمارية الغربية، أولاً، في أنّه يقطع الطريق على التعاطف بين الشعوب الأوروبية المسيحية والشعوب والجماهير المسيحية الشرقية، فيما لو جرى الاستعمار المباشر للأخيرة من قبل الدول الغربية الاستعمارية، وثانياً، في أن الدول الغربية الاستعمارية كانت ولا تزال تشجع وتدعم الاضطهاد «الاسلامي» للمسيحيين الشرقيين، كي تستغله كحجة واقعية من أجل تبرير استعمار الشرق بحجة حماية المسيحيين.إن الشعب الأرمني الأبي لا يزال حتى اليوم ضحية للمساومات الدولية المخجلة مع تركيا العنصرية. فمن جهة، أصبحت المسألة الأرمنية مع تركيا تطرح، حتى من قبل «القوميين» الأرمن أنفسهم، كقضية «إنسانية من الماضي» تتطلب فقط مجرد الاعتراف بالمجازر والاعتذار عنها، لا كقضية قومية تتطلب أساساً، فوق كل ذلك، النضال من أجل التحرير والعودة.
وإن «القوميين» والوطنيين التقدميين الأرمن جميعاً، اليمينيين واليساريين، التقوا موضوعياً، من خلال نزاعاتهم السياسية ـ الحزبية والأيديولوجية، عند نقطة رئيسية هي: المهادنة الفعلية لمغتصبي أرمينيا، وجزاري الشعب الأرمني، وهي المهادنة المستمرة منذ حوالى تسعين سنة، وتحويل ذكرى المجازر إلى مجرد ذكرى للبكاء على الأطلال والصلاة عن روح الأموات. وربما لا نجانب الواقع إذا قلنا إنّ جميع «القوميين» والوطنيين التقدميين الأرمن، ومعهم جميع مسيحيي الشرق، هم الآن أمام أزمة ضمير تاريخية، إلا أنها أزمة لا يحلها البكاء وإقامة التذكارات عن أرواح الموتى، بل الكفاح المرير ضد المستعمرين الشوفينيين الأتراك، وسادتهم الاستعماريين الغربيين، من أجل استعادة الأرض والحقوق القومية المغتصبة للشعب الأرمني المظلوم. فهل آن الأوان لإزالة العوائق الأيديولوجية والسياسية ـ الحزبية أمام القضية القومية ـ الانسانية الأرمنية؟! وهل آن الأوان لكسر مؤامرة الصمت العالمية، الأميركية ـ الأوروبية ـ الصهيونية، عن القضية العادلة لهذا الشعب الحضاري العريق؟!
* كاتب لبناني