... تتجوّلُ في هذا الوطن... تلتهمُ عربتكَ طرقاته، من جنوبه إلى شماله....وفي رحلة تجوّلكَ هذه، تحزن، تستقرُّ في جوفكَ الخيبة، وقليلاً ما تبتسم...جنوباً، كما في غيره، لا تخلو الشّوارعُ من صور لسياسيّين يجوزُ تحنيطهم أحياء لفرط ما مرّت عليهم عقود زمنيّة لم نلتمس لهم فيها أيّة نيّة في اعتزال الكرسيّ! ... وصور لشهداء كثر، كان يمكن لتخليدهم أن يتّخذ من الذّاكرة الجماعيّة الوفيّة مسرحاً له، دون الشّوارع...!

تروحُ تبحثُ عن شوارع لا لونَ لها، لا ينتشلكَ من بحثكَ السّاذج سوى خيبتكَ في الإيجاد...
وجنوباً أيضاً، عبقُ الأرض يغريكَ بالبقاء، صخورٌ صامدة كأهلها، كمقاوميها من شيوعيّين وقوميّين ومحرومين ومن أتى بعدهم من بواسل في المقاومة الصّفراء، حرّروا الأرض – جميعهم - من طغيان جبان...
تهبطٌ إلى صُور، سيّدة البحار، تستنشقُ هناك عطر الحرف المُسافر مع قدموس. تستحضرُ تاريخ الماضي الغابر، في شريط عابر، تشعرُ بانشراح ناعم، تقفُ عند الميناء، تتسلّلُ إلى حواسكَ رائحة الصّيادين الماطرة شرفاً وطهراً، المراكبُ أمامكَ فرحة رغم تكسّر الموج والعواصف عند أطرافها. ترمي بنظرك إلى شرفات المنازل، تبتسمُ لشعراء جالسين ينسجون قصائدَ في صور... في الحبّ... في السّلام.
من الجنوب
الى الشمال كثير من
الخيبة وقليل من
التبسّم

من الميناء تدخل إلى حارة المسيحيّين. لا تشعر بانقباض رغم ضيق الأزقّة، بل يعلو وجهك فرحٌ عميق. هنا مزارٌ للسّيدّة العذراء، تقتربُ لتشعل فيه شمعة، دون أن تنظرَ إلى بطاقة هويّتك. هنا مطرانيّة توزّعُ تعايشاً دافئاً ومحبّة صافية.هنا مدرسة لراهبات مار يوسف، تقاوم ثلوج العمر على رأسها بمزيد من تضحية وعطاء. هنا مقاهٍ تجاورُ زبدَ البحر وصخره، تقدّمُ الشّاي والخمر معاً... بحسب الطّلب.
تظلُّ تمشي في الأزقّة، تقابل أجانبَ يقطنون فنادق حجريّة متواضعة، تراهم مغتبطين وهم ينقبّون في هذه المدينة عمّا قرأوه في كتب الحضارات والآثار...
تصرُّ أن تمضي ليلتك في صور حتّى تعرف توقيت نومها... وإذ بالفجر يطلع عليكَ وأنتَ لم تنم... لأنّها، تلك الأنثى الحجريّة، صور، لم تسمح لكَ بالنّوم، هكذا تستقبل صور زائريها، هكذا تعلّمهم أن يدمنوا على الأرق، بمزيد من السّهر والشّعر!
لا يمكنك أن تزور صور، دون أن يعنّ على بالك أن تبكي وأنتَ تفكّر بمن أقام في صور ليزرع فيها خميرة التّعايش... نعم! موسى الصّدر يعنّ على بالك، هو الذي عشقته صور، بكنائسها ومساجدها. في لحظة الإستذكار هذه، تروح تهذي كطفل متمتماً: العجينة التي صنعتها في صور ساكباً فيها خميرة الحبّ، بيدين من سلام، صارت خبزاً طازجاً يتوافد لقضمه كلّ جائعٍ إلى العيش مع الآخر.
ثمّ تتساءل نفسُكَ وأنتَ تستأنفُ هذيانكَ: لماذا يغيّبون الإعتدال ويبقون على التطرّف؟!
تغادر صور متّجهاً إلى صيدا، وريثة صيدون الفينيقيّة، صلة الوصل، بيت العلم... تتأثّر وأنتَ تسترجع طفولتك فيها. أبرز ما رسخ منها فيكَ مدارسها العريقة وما سكبته فيكَ من معارف وطموح... تبتسم! تفتخر بصيدا في هذه اللّحظة، كيف كانت مدارسها ولا تزال تستقطب أبناءها وأبناء قرى الجنوب المجاورة وتخرّج خيرة طلابها. تستيقظ صيدا باكراً، حريصة على تجارتها، سوقها لا تهدأ، لا تستمتع إلاّ بالتسوّق فيها، تتجاهل سوق قريتك لتمضي إليها طوعاً...
لكنّها مدينة تنام باكراً. تحتار ماذا تفعل فيها مساءً. تحتار كيف توقظها من نومها... صيدا لا تهوى السّهر كصور... صيدا طفلة تنام وتصحو باكراً.
تدخل إلى سوقها القديمة... يجتاحُكَ إحساسٌ بالتّداعي، بالخيبة، وأنتَ تقارن بينها وبين سوق جبيل، جبيل الأميرة النّابضة بالحياة! جدرانها الحجريّة القديمة تبدو مريضة، واهنة، تستنجد يداً تمسح عنها خيوط الشّحوب... مؤسف أن تتحوّل هذه السّوق القديمة إلى أحزمة بؤس، مؤسف أن يغادرها أهلها، وأن يقطنها غرباء... مؤسف أن يخفتَ فيها صوت الموسيقى.
تغادر المكان. ترسل بصرك إلى بعيد. ترتسم فكرة في بالك «صيدا عرين المقاومة»... تبتسم من جديد! تأبى أن تتناسى كيف دحرت صيدا الإحتلال الإسرائيلي وقاومت حتّى النّزف. غيمة سوداء تمطر عليكَ وجعاً مُرّاً وأنتَ تمرّ في عبرا وفي بالك شهداء للجيش سقطوا برخص منذ عام ونيّف. تجمد في مكانك، تحزن... تصرخ نفسك: لا تنسَ، في صيدا خطّ اعتدال... تعودُ لتبتسم.
تغادر المدينة. تتوجّه إلى الضّاحية. تراها لوناً واحداً، تغادر على عجل، تحبّ ناسها وعزّتهم، لكنّكَ تبغض اللّون الواحد. يخنقك اللّون الواحد. تغادر...
تزور بيروت...وسط المدينة يخفق في اختراق روحك... يكاد كلّ ما فيه يخلو من روح... تحزن على محالّ أجبر أصحابُها قسراً على الإقفال...تحزن على فقير لا يجد له في ذاك المكان، مكاناً. تحزن على ذلك الصّمت التّمثال... تهرب إلى الحمرا... تتنفّس الصّعداء... رئة بيروت حمراؤها. لا تصنّع فيها، ولا مظاهر، ولا تبجُّح... تزورُ ما تبقّى من مسارحها، تصادف مثقّفين كثراً، ليسوا فارغين، تتضاءل غربتك في الوطن... في الحمرا، تتداخل الألوان...فتبتسم...
تستأنفُ رحلتك شمالاً...وأنتَ تقترب من طرابلس تخافُ القنص... ترى أعلاماً سوداء على إحدى شرفاتها... تخاف...! تصادف بجوارك عسكريّاً، توشوش في أذنه «إخلع بذلتكَ، أخافُ عليكَ منهم...
وأنتَ تقتربُ من طرابلس، مدينة العلم، عصب التّجارة، حديقة التّنوّع... تخاف... صارت مدينة الرّصاص!
تغادر وفي عينيك دموعٌ معلّقة... وفي عينيك ألف حسرة وحسرة...، تعود أدراجكَ خائباً.