ما انتهت إليه معركة كوباني لا يعدّ نصراً بالمقاييس المتعارف عليها، غير أنّه يؤكّد أهمية العامل المحلّي في أيّ معركة مقبلة، سواء أكانت ضدّ «داعش» أم ضدّ داعميها من الأتراك والخليجيين. يمكن في المقابل أن ننسب تراجع التنظيم إلى ضربات التحالف الإمبريالي، ولكن في هذه الحالة سيصبح صعباً علينا فهم الآلية التي تعمل بموجبها المقاومة المحلّية لهذا النوع من «الإرهاب». في حالة كوباني (أو عين العرب بالعربية) تضافرت عوامل عدّة لتجعل من «هزيمة داعش» أمراً ممكناً، وخلال مدّة لا تتجاوز شهرين.

قبل ذلك، كانت «داعش» هي التي تستخدم هذه العوامل لهزيمة خصومها، إلى درجة بدت معها كأنها بالفعل «البديل الممكن» لنظم المنطقة المتفسّخة والعميلة والهشّة. وهذا في الحقيقة أمر مفزع، لأنّ استخدام هذه «الحركات الإبادية» للمقاومة (هذا إذا اتفقنا على أنها تمارس أفعال المقاومة ضدّ الغرب والنظم العميلة له) لا يعدو كونه قشرة خارجية، وغالباً ما يترافق مع إرغام البيئات المحلّية على العيش في ظلّ «بدائل حياتية» أسوأ بكثير من تلك التي كانت قائمة. لا أحد باستطاعته مثلاً الدفاع عن «البديل» الذي مثّلته طالبان بالنسبة إلى الشعب الأفغاني، وهي التي كانت تقود - كما تفعل داعش الآن صوريّاً - «المقاومة» ضدّ الوجود الأميركي هناك.

طالبان ليست بديلاً

في الحقيقة، يجد الكثيرون صعوبة في الدفاع عن النموذج الذي مثّلته طالبان، فما قدّمته للمجتمع بعد سنوات من العمل في الجبال لا يمكن اعتباره أمراً قابلاً للتكرار، وخصوصاً لجهة اعتماده على تهميش النساء واضطهادهنّ ومنعهنّ كلّياً من الانخراط في المجتمع. البعض يرى أنّ الشيء الوحيد الذي قدّمته الحركة للمجتمع هناك هو تجارة الأفيون، فبسبب البطالة المتزايدة بين الشباب الأفغاني أصبح هذا القطاع المحظور يجذب أعداداً متزايدة منهم، ويوفّر لهم بديلاً ممكناً عن الانخراط في أعمال الحرب. والحال أنّ حركة كطالبان لا تستطيع بحكم تكوينها الرجعي والمناهض لآلية التراكم الاجتماعي أن تترك المجتمع يتقدّم خارج إطار الحرب والصراع مع «الدولة» والأعيان المرتبطين بها على الغنائم ومناطق النفوذ. حتّى الأفيون الذي تجنيه بسواعد أبناء أفغانستان وتوزّع أرباحه كرشىً على السياسيين ورجال القبائل، إنما يعتمد على تصرّفها كعصابة، وبالتالي لا يساعدها على تجاوز المرحلة التي كانت تحتكر فيها أنماط «التبادل الاقتصادي» و»المنفعة الاجتماعية». المقاومة هنا لا تعود ممكنة، وتصبح عالة على المجتمع الذي تنهبه طالبان بمقدار ما يفعل الغرب، إن لم يكن أكثر. هي لا تنهب بالطرق التقليدية، بل تعتمد على أدوات الحرب، فتستخدم مثلاً مصطلح الغنيمة لتشريع مصادرة أموال وممتلكات المختلفين معها سياسياً أو اجتماعياً. تفعل ذلك باسم المقاومة والقصاص من العملاء، وبالتالي تفقد «حصانتها الأخلاقية» وتصبح قوّة نهب خالصة مثلها في ذلك مثل الاحتلال وأعوانه. بفضل هذه الممارسات تتحوّل فكرة قتال القوات الغازية التي تستخدمها طالبان إعلامياً إلى ذريعة لإرغام المجتمع على التنازل عن مكتسباته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية و... إلخ. أيضاً، بسبب ممارساتها يصبح بالإمكان إيجاد شرائح تفضّل الدمى التي نصّبها الاحتلال على «المقاومين» الذين يمنعون «العملية السياسية» بحجّة أنها فاسدة وغير شرعية. كلّ الكلام عن مواجهة الاحتلال يغدو بلا معنى في حال افتقاره إلى آلية لتنظيم المجتمع ودمج جميع شرائحه - وخصوصاً المهمّشة منها - في العملية الانتقالية التي تعقب خروج القوات الغازية، وهذا بالضبط ما تفتقر إليه طالبان، سواء اتفقت مع المجتمع المحلي أو اختلفت معه. وإذا كانت نتيجة الانتخابات الأخيرة في أفغانستان غير ممثّلة لكلّ أطياف المجتمع بحكم وجود الحركة والقوى المتحالفة معها خارجها، فانّ هذا الوجود يُعَدّ سيئاً بدوره. لنقل إنه لا يقلّ سوءاً عن «العملية الانتخابية» ذاتها، لا بل يمكن عدّه أقلّ تمثيلاً منها، بدليل أنه لا يميّز لدى استهدافه رموزها بين المدنيين والعسكريين، وبالتالي يتعامل بعدمية واستهتار شديدين مع المجتمع الذي يدّعي تمثيله.
العنصر المحلّي ينشأ من ضعف الدولة وتهاويها أمام الغزوين الخارجي أو الداخلي
هكذا، لا تعود الحركة التي قاومت الاحتلال الأطلسي بشراسة قلّ نظيرها تعبّر عن كلّ المجتمع، وتغدو في أحسن الأحوال جزءاً من الانقسام الحاصل في تلك البلاد على خلفية خروج القوّات الأطلسية منها. هي بهذا المعنى تعبير عن أزمة البلد، وليست في حال من الأحوال محطّ إجماع الراغبين في انتهاء الاحتلال كما كانت تبدو أثناء سنوات الغزو. وهذا يعني أنها لم تكن يوماً بديلاً للوضع القائم، وإذا كانت بديلاً في نظر البعض، فلأنّ الأفرقاء الآخرين الذين نصّبهم الاحتلال لم يستطيعوا تقديم نموذج أفضل منها. في كلّ الأحوال تبقى تجربتها إشكالية ولا تساعدنا كثيراً على فهم الظروف التي تدفع البيئات المحلّية إلى التوحّد خلف قوّة منظّمة ومقاتلة، تطرد الاحتلال وتحلّ محلّه في إدارة المجتمع الذي كان محتلاً ومحطّماً اجتماعياً.

بدائل «داعش» و... بدائلنا

العنصر المحلّي يقوى في غياب الدولة، وينشأ غالباً من ضعفها وتهاويها أمام الغزوين الخارجي أو الداخلي، ولكنه لا يصبح بديلاً إلا حين يستطيع تلبية احتياجات المجتمع بحيث لا يتهاوى هو الآخر ويبقى محافظاً على تماسكه، ولو شكلياً. إذا حصل ذلك بعد ثورة، فستكون الفرصة متاحة أكثر لتكوين الإجماع وحمل الناس على الوقوف وراء الثورة التي تمثّل طموحاتهم. هذه الأخيرة ليست غزواً، وحين تحلّ بمجتمع ما فإنها تنهكه - وهذا طبيعي في ظروف الثورات - ولكنها لا تحطّمه كما يفعل التدخّل الإمبريالي أو الغزو، وبالتالي تترك له هامشاً أكبر للتماسك وتجميع عناصر القوة التي «بدّدتها الثورة». في أفغانستان والعراق لم يحصل ذلك، حيث نمت العناصر المحلّية الأصولية على حساب المجتمع، مستغلّة غياب الدولة وحلول هياكل الاحتلال المباشر مكانها. في هذه البيئة لا يكون الإجماع ممكناً وتحصل عمليات المقاومة بقيادة عناصر لا يهمّها تلبية احتياجات الناس، فهي لم تقم بثورة في النهاية، بل قاومت واقعاً جزئياً فرضه الاحتلال، وهذه مقاومة جزئية بطبعها تماماً كالواقع الذي تعانده. ولأنها كذلك فهي لا تحتاج إلى برنامج للتغيير محايث لعمليات المقاومة ومساند لقواها، ما يؤدّي بطبيعة الحال إلى استبعاد شرائح اجتماعية عريضة ترغب في المقاومة، لكن بشرط تضمّنها لعناصر التغيير التي تحتاجها هذه الفئات. لا أتحدّث هنا فقط عن المرأة أو العلمانيين بأطيافهم المختلفة، بل أيضاً عن الفئات المهمّشة التي يصعب أن تجد من يمثّلها في «برامج العمل» التي تضعها طالبان أو «داعش» أو سواهما من الحركات الوهابية المقاتلة. كيف يمكن تمثيل هؤلاء في حركات لا تعتمد على توزيع الثروة، وبدلاً من تشغيل العاطلين من العمل تعمد إلى استغلال قوّة عملهم لتحقيق فائض يعينها على مجابهة «الحصار» المفروض عليها من الخارج. تبيع النفط بأسعار بخسة لأثرياء تركيا بعد أن يكون العاملون (وجلّهم من الفقراء والعاطلين من العمل) على استخراجه من حقول دير الزور والرقّة والحسكة قد ماتوا من التسمّم الهوائي الذي تسبّبه عمليات التكرير البدائية. ما مصلحة هذه الفئات التي همّشها الصراع بين النظام و»داعش» في التحوّل إلى وقود لأعمال العصابات التي تتبادل السيطرة على أراضي سوريا وثرواتها؟ ما هي حصّتهم من هذه الثروة أصلاً؟
لا تقع هذه التساؤلات على أجندة تنظيمات مثل «داعش» وطالبان، فهي تزاول أعمال الحرب، ومن ضمن أعمالها استخدام الفقراء بدل خدمتهم وتوفير احتياجاتهم. حتى الفتات الذي يصلهم من الأرباح الطائلة لتجارة النفط (الأرقام التي تتداولها الصحف ووكالات الأنباء عن أرباح «داعش» من تكرير النفط وبيعه لتركيا خيالية بكلّ المقاييس) يصبح جزءاً من آلية التراكم الأوّلي التي تهمّشهم لمصلحة الأثرياء والأعيان الجدد من الدواعش، أي تماماً كما كانت تفعل النظم التي ثاروا عليها صوريّاً باسم التهميش والإقصاء (أصبح لدينا العشرات من رامي مخلوف في ولاية الخير المباركة!). ليست هذه بثورات على الإطلاق، وإذا كانت تعتبر نفسها مقاومات ضدّ الاحتلال والغزو الأجنبي فلتخبرنا عن إنجازاتها بعد إخراج عملاء الاحتلال من الموصل والفلّوجة ونينوى والرقّة و...إلخ! لحسن حظّنا أنها تعثّرت في طريقها إلى تحرير بقية المناطق المحتلّة وواجهت بيئة محلّية عظيمة اسمها كوباني أو عين العرب.

أوّل هزيمة لداعش أمام بيئة محلّية

آخر الأخبار الواردة من كوباني تقول إنّ مسلّحي «داعش» قد أصبحوا «خارج المدينة تماما». في اليومين الأخيرين فقط تراجعوا لمسافة سبعة كيلومترات بعيداً عن الأحياء الجنوبية والشرقية. لم يحصل ذلك بسبب ضربات التحالف الإمبريالي كما يقول الإعلام، فلو كان ذلك صحيحاً لوصلت «داعش» إلى معاقل وحدات حماية الشعب في قلب المدينة. صحيح أنّ الضربات الجوية أخّرت تقدّم الدواعش قليلاً، لكنها لم تمنعهم من تنفيذ عمليات انتحارية على مختلف الجبهات المشتعلة، وبعض هذه العمليات فشلت لأسباب لا علاقة لها بالغارات أصلاً. التقدّم حصل بسبب قدرة المقاتلين والمقاتلات الأكراد على الصمود وإجراء المناورات على مختلف الجبهات، وهذا سلوك جديد بالنسبة إلينا، فنحن لم نعتد منذ أن بدأت «داعش» عملياتها في تموز 2014 أن تصمد بيئة ما في وجهها أكثر من أسبوع.
في العراق اجتاح التنظيم نينوى والموصل ووصل إلى حدود الأنبار في أقلّ من أسبوع، وكذا الأمر بالنسبة إلى الرقة سابقاً، فيما يعجز على جبهة كوباني عن التقدّم بضعة كيلومترات، ويسقط منه العشرات يومياً في مواجهة بضعة مئات من المقاتلين والمقاتلات الكرد. من يومين أورد المرصد السوري لحقوق الإنسان حصيلة أوليّة لقتلى الطرفين خلال المواجهات الدائرة على جبهة كوباني منذ أكثر من شهر. يقول التقرير إنّ إجمالي القتلى بلغ 662 شخصاً بينهم 374 من عناصر داعش، بينما قتل 258 عنصراً من وحدات حماية الشعب وتسعة مقاتلين أكراد آخرين ومتطوّع واحد قاتل إلى جانبهم. ثمّ يستدرك المرصد، فيقول إنّ هذه الحصيلة لا تشمل من قتلوا في غارات التحالف الدولي على كوباني. الأرقام هنا تغنينا عن التحليلات المتضاربة، وتظهر لنا فعالية المقاومة الكردية في قتالها البطولي ضدّ الأوباش الدواعش.
عدد شهداء وحدات الحماية الكردية أقلّ بمئة تقريباً من قتلى داعش التي ترفد يومياً بمئات العناصر من المناطق المجاورة (الرقّة، تل أبيض، ريف حلب... إلخ)، وهذا كما يقول المرصد لا يشمل «المساعدة» الرمزية التي وفّرتها الضربات الجوية، وأوقعت عبرها مزيداً من القتلى في صفوف «داعش». وبناءً عليه، يصبح أيّ كلام على فضل جوهري للتحالف الإمبريالي في الهزيمة التي حلّت بداعش دعاية مبتذلة، الغرض منها إضعاف البيئة المحلّية العظيمة التي يعود إليها الفضل وحدها في هذا «النصر». لم يسبق لأحد أن قاتل ضدّ داعش بهذه الشراسة. الجيش العراقي المدجّج بكلّ أنواع الأسلحة انهار أمامها خلال ساعات، والأرجح أنّ قدرة أيّ جيش آخر على مقاومتها لن تكون أفضل، فهي تعتمد في قتالها على العصبية التي توفّرها البيئة المحلّية المستعدة للتضحية في سبيل هدف ما. «داعش» نفذت إلى بيئة العراق معتمدة على الرابط العشائري المحافظ دينياً، واستطاعت عبر اللعب على واقع التهميش الذي حصل للـ«...» هناك أن تقبض على اللحظة وتتمدّد في مناطق مختلفة على حساب الجيش العراقي الضعيف والهشّ أيديولوجياً. تمدّدها اعتمد أساساً على البيئة الحاضنة التي رفدتها بالعنصر البشري وبفكرة المظلومية، وحين انهارت أمامها كلّ البيئات التي كانت تعوّل على الجيش والشرطة العراقيين شعرت بأنها أصبحت سلطة مطلقة لا يستطيع أحد مواجهتها. بهذه العقلية أتت إلى عين العرب – كوباني، معتقدة أنها ستكرّر تجربة الغزو السّهل مع الأكراد، ومعوّلة على أمرين اثنين: العنصر البشري الذي يفوقهم عدداً بكثير، والتفوّق العسكري الكبير حيث لا يملك الأكراد للدفاع عن أنفسهم إلا أسلحة متوسّطة، فيما تتوافر لداعش أسلحة ثقيلة قوامها دبّابات وراجمات صواريخ وناقلات جند و...إلخ. هنا تحديداً حدثت المفاجأة، وحلّت بداعش أوّل هزيمة عسكرية كبيرة له أثناء تمدّده في سوريا والعراق. لم تتراجع بعدها قدرته العسكرية فحسب، بل فقد المقدرة أيضاً على تجنيد مقاتلين يمكن أن يقتنعوا بصواب ما يفعله في سوريا. ربما تعافى لاحقاً من هذه الهزيمة، ولكنه لن يقدر على تكرار التجربة مع بيئات تملك هذا القدر الهائل من العزيمة والإصرار والاستبسال في مواجهة الخصم. التفوّق العسكري في حالة كهذه يصبح نكتة، ولا يعود قادراً على تأمين خطوط الإمداد حتّى. في المقالة السابقة تحدّثت عن حرب الشوارع التي تفقد السلاح الثقيل أرجحيته وتساوي بينه وبين الكلاشينكوف الذي يقاتل به الأكراد. وحدات حماية الشعب كانت تعرف ذلك، ولذلك بدت قيادتها واثقة من صدّ داعش وردّه على أعقابه.
هي كانت تحتاج فقط إلى خطّ إمداد يوفّر لها مزيداً من السلاح والمال، ويبدو أنه قد توافر بطريقة ما على ما قالت إحدى القياديات في الوحدات أخيراً. هذا البعد العسكري يسير جنباً إلى جنب مع أبعاد أخرى أسهمت أيضاً في حسم المعركة لمصلحة وحدات حماية الشعب وحلفائها. الوحدات تتميّز عن غيرها من المجموعات المسلّحة في سوريا بنمط قتالها التشاركي، وهذا ليس بالأمر الذي يمرّ مرور الكرام. هي منذ التسعينيات من القرن الماضي تُشعر مقاتليها بأنّهم سواسية ولا تميّز بينهم على أساس الجنس أو المعتقد، وحين يستشهد أحد أفرادها في الميدان تكرّمه بحضور عائلته، وترفعه إلى مرتبة الرمز مثلما تفعل كلّ حركات التحرّر في العالم. المسألة لا ترتبط فقط بقيادة امرأة للمقاتلين ولا بحجم المشاركة النسائية العظيمة في القتال، بل بالقرار السياسي الذي يضع إرادة التحرّر والمساواة الفعلية (لا الصورية كما تفعل بعض المقاومات) فوق أيّ إرادة أخرى. هذه الإرادة تملكها عادة البيئات المحلّية التي تقوم بثورة على النظام لكي تحرّر مواطنيها لا لكي تستعبدهم، وهذا بالضبط هو الفارق بين «داعش» ومقاومة كوباني البطلة.
* كاتب سوري